فقعوا له ساجدين
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلّ عـلى محمــد وآل محمــد
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين حبيب قلوبنا وطبيب نفوسنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين آمين رب العالمين.
كل ما في الوجود هو صور للولاية، لأن الله سبحانه وتعالى أراد أن تكون الولاية هي الأمر الذي عليه مدار الخلق ، فقام الوجود بأسره يحكي عنها ويعرّف بها، فكل شيء حمل صفة أو أكثر منها ليحكي توحيده لله بما حمل من أمره الذي أراده في كل ذرة من ذرات خلقه.. ولاية الأطهار محمد وآله الأبرار.
وإذا كانت الولاية تعني الهيمنة والسلطان فإن الصلاة قد حظت بالوصف الأعلى منها بين العبادات فصارت عمود الدين، فإقامة الصلاة هي إقامة للولاية وهو قول أمير المؤمنين (ع):“من أقام ولايتي فقد أقام الصلاة”، فإذا كانت أعمال الخلايق جارية على سنتهم ومأخوذة عنهم بالتسليم لهم والرد إليهم قُبلت لأنها التقوى، وهي في الحقيقة إتقاء موالاة أعداء الولي وسنتهم ووصفهم لأنها أصلٌ لجميع المعاصي.
واعلم أن هيئة الركوع والسجود هي هيئة الولاية، ولما كانت الولاية المطلقة تتضمن تدبير جميع ذرات الوجود {أَفَمَن هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفسٍ بِما كَسَبَت} (الرعد:33) لم يتحرك شيء ولم يسكن في جميع الأحوال إلا باقتضاء الولاية وهو قولهم: “بنا تحركت المتحركات وسكنت السواكن” فترى أن الصلاة بالكيفية المعروفة والتي اختص بها الإنسان دون غيره من الخلق اشتملت على جميع الأعمال التي تخدم الملك المتعال من ركوع وسجود وقيام وقعود وتشهّد، وهذه الأعمال تراها متفرقة في باقي الخلق.
وبالنظر إلى مقامات الباطن الكامنة في الصلاة تكون تكبيرة الإحرام إشارة إلى توحيد العبادة، وهو قول الإمام السجاد (ع): “وإن كل معبود مما دون عرشك إلى قرار أرضك السابعة السفلى باطل مضمحل ما عدا وجهك الكريم” وهو الانقطاع إلى الوجه الذي أمرنا بالتوجه إليه وهو جهة المعبود الحق وعدم الالتفات إلى غيره فيبلغ العابد مقاماً يكون وجوده توحيداً من باب أن وجود الأثر هو بعينه ثناء على المؤثر.
وأما القيام فهو توحيد الأفعال، وهو إشارة إلى جهاد العبد في سبيل الله منقطعاً إلى ذلك السبيل عارفاً بحقه متفانياً في خدمته لعلمه بأن الأفعال كلها فانية في مبدأ واحد وهي الأسماء التي بدأ بها الجليل خلقه فكانوا حملة لأفعاله ومظهراً لها “فلا يُسمع صوت إلا صوتك ولا يُرى نور إلا نورك”، {وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى} (الأنفال:17) فإذا نظرت إلى الآثار ترى الفاعل الذي تكلم بكلمة فكانت خلقاً ثم نفخ فيه من روحه، فالوجودات وأفاعيلها تصدر عن الخلق بالحق، فقيامك هو عين فعله فيك لكونك سبباً لظهور الفعل الإلهي عندما طابق فعلك مشيئته وإرادته.
أما الركوع فهو إشارة إلى توحيد الصفات لأن الوجود حقيقة ذات واحدة وكل ما عداها صفات وأسماء وظهورات، والمتبصر يرى أن الكون كله مخلوق على نسق واحد وهو قوله تعالى: {ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ} (لقمان:28) وهذا واضح للمتأملين ذوي الألباب، فالوجود مع كثرة تنزّلاته وأجزائه وصفاته وأفعاله ومتعلّقات أفعاله أوجده الله على هيئة شخص واحد، فكل شيء أعلاه ذاته المجرّدة عن السبحات ثم أحدث بها ميوله وإرادته وهي أفعاله الذاتية ثم أحدث عنها أفعاله الظاهرية وهي آلات الأفعال الذاتية، فكانت هيئة ذات العبد التي تعرّف له الخالق بها على هيئة مشيته الخاصّة به.
وأما السجود فيحكي توحيد الذات، وهو أعلى مقامات التوحيد فيكون العبد أقرب ما يكون إلى ربه بعدم مشاهدة الصفات والأفعال والأسماء فلا يبقى شيء إلا وجهه "كمال التوحيد نفي الصفات عنه" ، وذاك يحصل بعد الاندكاك في أنوار الجليل كنقطة الماء إذا عادت إلى البحر.
وإكرام الله لهذا الإنسان بالصلاة دليل على أنه كلمة تامة أما باقي الخلق فحروف ناقصة، ويبقى التفاوت في رتب العباد، فمنهم من بقي في الأسفل الأدنى فلم يأتي لا بقيام ولا بركوع ولا بسجود، بل وأنه لم يشرع حتى بتكبيرة الإحرام، وهذا من أدبر مولياً ولم يقبل أبداً، ومنهم من قرب من الوصول فمنعه بعض الفضول فبقي في مقام القيام والمجاهدة، وهذه عبادة يلفها النقص لأنها تفتقر للخشوع والتعظيم الذي يظهر جلياً عند الراكعين، ولأن الله لا يخلي الأرض من أوليائه فترى فئة الواصلين الذين أتموا صلاتهم بكل أركانها.. فصارت جوارحهم مسلوبة الحكم، وانقطعوا ساجدين تحت عرش الرحمن يحكون توحيده بكل وجودهم لأنهم نوره الذي لا يطفى. فانظر أيها العبد وتبصر في أي الأحوال أنت، فإن هذه الأحوال هي وجودك والأمر منوط باختيارك، فلا تترك العمر ينقضي وأنت لم تدرك لحظة السجود بعد {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} (الحجر:98) .