وعباد الرحمن

سماحة الحكيم الإلٰهي والفقيه الرباني المولىٰ

 ميرزا عبد الله الحائري الأحقاقي حفظه الله


وعباد الرحمن


بسم الله الرحمن الرحيم


اللهم صلّ على محمدٍ وآل محمد


يقول تعالى في محكم التنزيل: {وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً} (الفرقان: ٦٣) وورد عن مولانا أمير المؤمنين في خطبته لهمّام في وصف المتقين: "لا يغرّه ثناء من جهله ولا يترك إحصاء عمله مستبطئاً لنفسه بالعمل، قد أحيا عقله وأمات شهوته وأطاع ربه وعصا نفسه حتى دق جليله ولطف غليظه وبرق له لامع كثير البرق فأبان له الطريق وسلك به السبيل، وتدافعته الأبواب إلى باب السلامة ودار الإقامة وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الأمن والراحة بما استعمل قلبه وأرضى ربه" وقال تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ للتَّقوى} (البقرة: ۲۳۷) فمقام المتقين مقام عظيم والقرآن دائماً يؤكد عليه ويرسم منهجية الوصول إليه فيقول مثلاً: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصَّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: ۱۸۳).


وقد تعدد وصف المتقين في روايات الميامين (ع) من باب (عباراتنا شتى وحسنك واحد) فقد ورد عن الصادق (ع): "المؤمن من طاب مكسبه، وحسنت خليقته وصحت سريرته وأنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من كلامه" ، فكثرة الكلام فيما لا يعنيك من الأمور المنبوذة عن أهل البيت (ع) ، فقد قالوا إذا رأيت نقصاً في رزقك فاعلم أنك قد تكلمت فيما لا يعنيك، وقد سمع أمير المؤمنين يوماً رجلاً يشتم قمبر فرام قمبر أن يشتمه ، فناداه الأمير: "مهلاً يا قمبر ، دع شاتمك مهاناً ترض الرحمن وتسخط الشيطان ، وتعاقب عدوك ، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أرضى المؤمن ربه بمثل الحلم ، ولا أسخط الشيطان بمثل الصمت ، ولا عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه" وأمثال هذه الروايات كثيرة في الخُلق المندوب للمؤمن المتقي . 


فقد أوجب الله سبحانه وتعالى في الحكمة الاختيار لكي يصح الاختبار ، ولكي يصح الاختيار كان لا بد من وجود الآلات بنوعيها .. النور والظلمة ، والمتقي من طغى فيه جانب النور على جانب الظلمة لأنه أحيى عقله وأمات شهوته ، ففي كل لحظة هو مستجيباً لنداء العقل السليم الذي لم يزل ولا يزال على الفطرة لأنه لم يتنجس بكثافات الإدبار والنظر إلى الأغيار ، والذي جعله الجليل عرشه الذي استوی به على الماء فأعطى لكل ذي حق حقه وساق إلى كل مخلوق رزقه من الفيض والمدد وهو النور الأقدس محمدٍ وآله صلوات الله عليهم أجمعين .


فهم عباد الله الذين استغرقوا في محبته فصاروا نوره ولسانه ويده ، ومن شيعتهم عباد شغلتهم محبة يده ولسانه ونوره عن كل شاغل .. حتى عن أنفسهم ، فصاروا لا يرون إلا ذاك النور ولا يسمعون إلا ذاك الصوت ، فكان التسليم ناموسهم لأنهم فهموا قولهم (ع): "أبغض الناس من إذا عرض حديث من أحاديثنا عليه أنكره أو توقف فيه" ، فالبعض يردّ وينكر لأن عقله لا يتحمل ، كما أنه يتجاهل قصور عقله و عقول الخلايق جميعاََ عن إدراك الأمر الذي عجزت عن حمله السماوات و الأرض .


لكن المحب الحقيقي والحامل لولايتهم في أصل طينته لا ينكر ولا يتوقف ولا يرد ولا يطرح كلمة من كلماتهم .. وكيف للمحب أن يطرح كلام محبوبه ، فإذا لم تفهم ما ورد منهم فذره في سنبله حتى يغني الله كلاً من سعته ، أو خذه على أحسن الوجوه لأنهم قالوا (ع): "إن كلامنا له معان شتى فاحملوه على أحسنها" ، وتذكر أن لكلامهم ظاهر وظاهر ظاهر وباطن وباطن باطن إلى سبعة أبطن أو قالوا (نيف وسبعين) بطناً ، وهو قوله (ع): "إني أتكلم الكلمة وأريد منها اثنين وسبعين معنى ولكل منها المخرج" وهم يفيضون على كل بقدره ، وأقصى ما أظهروا للخلق من علومهم هي الألف غير المعطوفة ، فمَن زيد في الوجود ومَن عمرو حتى يقيس كلامهم بعقله (إن صحت له التسمية) .


فإذا كنت تابعاً بحقيقة التابعية تشرب صافياً منهم ، وتفتح لك مملكة العقل أبوابها التي لا تُفتح إلا بأمر الولي ، فتفهم بيقين ثابت وتنتقل من علم إلى أعلى من طور إلى أرقى ، فتصل إلى التوحيد الخالص من الشرك عندما يظهر لك أول فعل الله فيك وما أودعه من صفات إلهية لتعرفه بها ، وهنا لا تحتاج إلى دليل لأنك وصلت إلى مقام الشهود والعيان في معرفة نفسك. 


و هذه هي الجنة .. جنة القرب والوصال التي أدناها ما يشعر به العبد عند مناجاة ربه واتصاله به حال عبادته ، كقول أمير المؤمنين (ع): “قد حلا في أفواههم وحلا في قلوبهم طعم مناجاته ولذيذ الخلوة به” ، فإذا ذقت حلاوة الخروج من عالم الناسوت والوصول إلى عالم الملكوت ولو للحظة تستقذر هذا العالم ، لأنك الإنسان الذي لا يليق به إلا ما أعِدّ للإنسان من النعيم واللذات الروحية الخالدة التي لا تقاس بلذات الجسد ، فكان عليك اجتياز كل عقبات النفس الحيوانية بإحياء العقل ، فالتفكر والترقي يوصلك إلى أن غاية لذات الجسد وكمالها نقصان عند لذات الروح ، لأن الروح خُلقت من ظل الربوبية وهي أقرب إلى مؤثرها من الجسد ، فكانت مشابهتها لصفات مؤثرها أكثر ، ولذلك انفعلت لها الأشياء ، وصار صاحبها يسبح في كل لحظة في أنوار ربه .. وهذه بعينها هي الجنة .. أن تكون نوراً خالصاً {اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} (النور:٣٥) فكل موجود موافق لأمر الله ومحبته ورضاه وإرادته كالهداية والنعم والعبد المطيع هو نور الله في السموات والأرض . 


{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً} (الكهف:١١٠)