سماحة الحكيم الإلٰهي والفقيه الرباني المولىٰ
ميرزا عبد الله الحائري الأحقاقي حفظه الله
ولا أكملتك إلا فيمن أحب
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلّ على محمدٍ وآل محمد
يقول تعالى في محكم التنزيل: {وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ}.
يقول مولانا أمير المؤمنين (ع): "لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً"، فكما أن القرآن الكريم .. هذا السفر الإلهي حاوي لكل ما في الوجود لأنه أعظم كتاب تدويني، فالإمام هو الكتاب التكويني الحاوي لكل الوجود، لذلك يقول تعالى: {قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ} لأن ولي الله الأعظم هو الولي على خزائن علم الله ، وفيه يقول أبو جعفر (ع): "إنا لخزان الله في سمائه وأرضه لا على ذهب ولا على فضة إلا على علمه" ، فالقرآن هو العلم والإمام هو حامل هذا العلم، وعقلاً الحامل أفضل من المحمول، فهم خزانة الأشياء من ذواتها وصفاتها وأحكامها وعللها لأن كل شيء ذرئ بنور الله وهم نوره سلام الله عليهم أجمعين {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} فالملكوت هو غيب كل مخلوق وعلته وزمامه، وهم يد الله المتصرفة في الوجود وفي ملكوت كل موجود.
فالقرآن هو العرش التدويني وهم العرش التكويني والماء الأول الذي به حياة كل شيء، ولأن لهم القيومية على كل نفس فإنهم يرون كل شيء في مكان وجوده و زمان شهوده بأمر الله، فهم ذلك الأمر الذي قامت به السموات والأرض وكل ذلك في إطار العلم الحادث لا العلم الذاتي، لأن العلم الذاتي هو عين الذات الذي هو عين القدرة وعين السمع وعين الصفات الذاتية بأجمعها بلا تعدد لا بالحيث ولا بالفرض ولا بالاعتبار.
أما العلم الحادث فهو على أنواع وأقسام فمنه الممكن المقدور الغير مكوّن الذي لم يلبس حلة الوجود، أي أنه تعلق بالمشيئة الإمكانية ولم يتعلق بالمشيئة الكونية (عالم الإمكان)، وهذا يعلمونه علم إحاطة إمكان لا علم إحاطة وجود أما المكوّن فعلى قسمان:
- مكوّن مشروط
- ومكوّن منجز
فالمنجز حتماً يحيطون به، أما المشروط فإنهم لا يحيطون بشرطه إلا بعد أن يكون مشاءاً، أي بعدما يتعلق بالمشيئة الكونية، وكل ذلك بتعليم الله عز وجل لحظة بلحظة وبتعليم جديد آناً فآن يقول سيدهم وفخرهم النبي الأعظم (صلى الله عليه و آله) : "لو لم نزدد لنفدنا".
وقد ورد عن الصادق (ع): "لما صعد موسى (ع) إلى الطور فنادى ربه قال يا رب أرني خزائنك ، قال يا موسى إنما خزانتي إذا أردت شيئاً أن أقول له كن فيكون" وهل أوسع من هذه الخزانة في هذا الوجود!
فالخزانة هي المشية، وهم محال مشيئة الله فهم يتقلبون في مشيئة الله ولا مشيئة لهم لأنهم {عِبادٌ مُكْرَمُونَ ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}.
ولأن الله يثق بأنهم يؤدون العلم والحكمة لأهلها فقد استودعهم حكمته وعلمه، والحكمة هي العقل المكمل الذي يقول فيه الجليل: "ولا أكملتك إلا فيمن أحب" وهم أهل البيت (ع) ، فهي ضياء المعرفة بالفؤاد المعبر عنها بالتوسم {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} قالوا (ع): "أول المتوسمين رسول الله (صلى الله عليه و آله) ونحن".
لذلك هم يعرفون من يستحق حمل هذه العلوم بالتوسم فيفيضون على كل بقدره، فلا يوجد شيء من الحق عند أحد من الخلق إلا منهم، فبعلمهم ينتصرون للدين فينفون عن الدين ما ليس منه ويتممون ما نقص منه، لأنهم حفظة سر الله وهي العلوم التي لا يجوز إظهارها إلا للكمّل، لأن حديثهم صعب مستصعب لا يحتمله إلا مدينة حصينة أو من شاءوا، لذلك لا يُظهرون لكل مخلوق إلا بقدر ما يحتمل، فتراهم يجيبون أجوبة متعددة لأشخاص عدة في مسألة واحدة {وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}.
فإذا كنت من الموقنين بما أعطاهم الله من فضله من العلم، وجب أن يكون رأيك لهم تبع ولا يكون رأيك موافق لرأيهم لأن ذلك دليل الاستقلال، وإنما أنت من فاضل الطينة وكل شيء يحن إلى ما منه بدأ، فالشعاع عند المنير لا يجد نفسه وليس له شعور مستقل إلا بما أعطاه المنير، فرأيك من فاضل رأيهم، لأنه من حوضهم، وهذا ما افتخر به شيخنا الكبريائي الأوحد الإحسائي (قده) عندما قال: (العلماء يأخذون تحقيقات علومهم بعض عن بعض، و أنا لم أسلك طريقهم و أخذت تحقيقات ما علمت عن أئمة الهدى (ع) لم يتطرق على كلماتي الخطأ، لأني ما أثبت في كتبي فهو عنهم و هم (ع) معصومون عن الخطأ و الغفلة و الزلل، ومن أخذ عنهم لا يخطئ من حيث هو تابع).
فعن أبي عبد الله الحسين (ع): "لا يكمل العقل إلا باتباع الحق"، فإذا كنت كذلك علموك علمهم الذي لا يحتمله نبي في جوفه إلا إذا أخرجه إلى نبي مثله، ولا يحتمله مؤمن إلا إذا أخرجه إلى مؤمن مثله، فسلم بمقام المعلم الأول في هذا الوجود الذي قام بتعليم كل شيء حتى الملائكة في بداية الخلقة عندما خلقهم الله فقال لهم سبحوا فقالوا يا ربنا لا علم لنا ، فقال للمعصومين: سبحوا فسبحوا فسبحت الملائكة بتسبيحهم (ع) .
وكذلك البشر .. فإنه لا يكون عندهم شيء من العلم إلا بتعليم العالم (ع) سواء بالإلهام أو بالتوفيقات أو بالإمدادات وهذا ما يسمى بالتعليم العام، كما أن لهم مقام التعليم الخاص لمن يستحق هذا المقام من باب {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها} وهم يعلمون أن من يحمّلونه علمهم يحفظ سر الله وهو أمرهم وولايتهم، فيأخذ منهم أعظم الصفات الإلهية التي يمتدحها بها القرآن بقوله: {وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} فشيعتهم إذا حملوا هذه الصفة كانوا من الراسخين في العلم وهم الذين أقروا بجملة ما جهلوا من الغيب المحجوب واستغنوا عن اقتحام السدود المضروبة اعترافاً منهم بالعجز ، فتركوا التعمق فيما لم يكلفهم البحث عن كنهه لأن عظمة الخالق لا يحيط بها خلقه.
(سبحان ربي العظيم وبحمده)