خادم الشريعة الغراء آية الله المعظم المجاهد
الحاج ميرزا عبدالرسول الحائري الإحقاقي قدس سره
الإجابة على الإعتراض الثامن في
خصوص الولاية الكلية للمعصوم (ع)
الإعتراض الثامن : يقول المعترضون : إنَّ النبي (ص) هو بشر بسيط مثلنا ، والفرق بينه وبيننا ، أنه كان يعبد الله ، ويخافه ، أكثر منا ، وكان من المتقين !
ويستندون في رأيهم هذا على قول الله ، عز وجل : {قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} ويعتبرون الأئمة المعصومين (ع) كبقية أفراد الناس ، وليس لهم أي امتياز على سائر البشر ، سوى كونهم واسطة لإيصال أحكام وسائل الدين إلى الناس .
ونقول في الجواب : إنهم بقولهم هذا ، يتمسكون بظاهر الآية ، ولا يلتفتون إلى نواقص كثيرة تجابههم ، كارتكاب المعاصي التي تصدر عن الفرد العادي ، وكون الأئمة المعصومين منزهين عنها ، التزاماً واختصاصاً بالمقام الرفيع للرسالة .
إنَّ الجواب الذي ذكرته في ذلك الفصل ، على الإعتراض السابع ، هو عين الجواب الذي أرد به على هذا الإعتراض .
إن هؤلاء الجاهلين الفقراء إلى العلم والمعرفة ، ونتيجة لرأيهم القاصر ، لم يوجهوا نظرهم إلى المقام الشامخ للرسول الأكرم (ص) ، والأئمة المعصومين (ع) ، حيث جهلوا درجاتهم الملكوتية ، وعوالمهم المعنوية ، وهذا ما جعلهم يشتبهون ، ويخطئون ، ويفكرون بهذه الطريقة التي تقودهم إلى الإلحاد والكفر .
إنهم لم يفهموا القرآن الكريم ، ولا كلام رجال الدين الأكابر ، ولم يستطيعوا أن يقضوا قضاء صحيحاً ، يرتكز على العقل السليم ، الذي هم منه محرومون .
وهنا لأجل أن أوضح هذا المعنى ، أرد عليهم من كتاب (نامه آدمیت) ، أي (رسالة الإنسانية) ، الذي هو من تأليف والدي المحترم ، الماجد ، وأستاذي ، وأبي ، آية الله الإحقاقي ، روحي فداه ، تيمناً وتبـركـاً ، في هذه المجموعة من البحوث والأدلة ، وتكون الإجابة مرتكزة ، كما هي على الدوام ، على المنطق السليم ، والاستدلال القوي الذي حرره والدي الماجد ، بغية رد هؤلاء أولاً ، وثانياً : أزين ، وأتبارك وأبارك كتابي هذا ، بدرج المقالة التي أوردها والدي الماجد في كتابه تحت عنوان «المعراج» .
المعراج
قال تعالى: {قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} .
إنَّ أهم الكلمات الواردة في هذه الآية الشريفـة ، والتي تحتاج إلى الشرح ، والتفسير ، هما جملتان : قل : {قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} ، و {فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ} :
علينا أن نوضح في البداية، حقيقة الإنسان ، والقدرة الجسمية ، ثم نرى أنَّ الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) أي بشر كان !!
لقد خلقت طينة الإنسان ، وحقيقته الجسمية (على ما يصرح به القرآن الكريم) من الطين ، والتراب وهذه حقيقة لا مجال للمراء فيها ، إذ يصرح القرآن بذلك في قوله تعالى : {إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ … فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ} .
إنَّ قدرة ومواهب الإنسان ، هذا المخلوق الترابي ، تتجلى في عالم الملك والناسوت ، ومهما أعمل جميع قواه ، التي منحه الله إياها ، فإنه لن يستطيع تجاوز حدود المادة ، والجسم .
إنَّ مجال تحليق هذا الهيكل البشري ، هـو الفضاء الناسوتي ، وحسب . فإذا أراد الطيران إلى القمر ، والمريخ ، والمشتري ، فإنه يستعين بالوسائل المادية أيضاً .
نعم ، يستطيع التطلع إلى العوالم العلوية ، والتعرف إلى المقامات السامية ، ولكن ليس بهذا الجسم ، بل يحلق في عالم الجبروت بالعقل ، وفي عالم الملكوت بالروح والنفس القدسية .
إذ ليس للهيكل المادي ، والجسد الترابي ، مجال في تلك المناطق السامية ، وأخيراً فهذه طينة الإنسان ، وهذه قدرته !!
في حين خلقت الذات المحمدية (بإجماع المسلمين ، والتواتر بين جميع الفرق) من نور الله ، جل جلاله ، وكان موجوداً قبل خلقة آدم (عليه السلام) بل كان ممتازاً بالنبوة أيضاً في ذلك العالم ، بدليل قوله (صلى الله عليه وآله) : "كنت نبياً وآدم بين الماء والطين" .
لقد أودع الله تعالى ، ذلك النور الطاهر ، والأنوار القدسية للمعصومين ، سلام الله عليهم أجمعين ، في الأصلاب الطاهرة ، والأرحام المطهرة ، فكانت تنتقل من صلب إلى صلب ، حتى ظهرت بمظهر بشري ، لأجل هداية الناس ، وهذا ما نص عليه في زيارة الإمام الحسين المعروفة بـ (زيارة وارث) :
"أشهَدُ أنَّكَ كُنتَ نُوراً في الأصلابِ الشَّامِخَةِ وَالأرحامِ المُطَهَّرَةِ لَم تُنَجِّسكَ الجاهِلِيَّةُ بِأنجاسِها وَلم تُلبِسكَ مِن مُدلَهِمَّاتِ ثِيابِها …" .
فلا مجال لإنكار الوجود المقدس لمحمد وآله الأطهار ، الذي خُلق قبل جميع الموجودات ، بإرادة الله تعالى ، وقد طفحت الكتب والمصادر الموثوق بها ، بذلك .
وهكذا نجد أن الحقيقة النورية للرسول الأعظم (ص) ، تختلف عن الطينة البشرية !
وأما قدرات هذا الرسول ، ومواهبه التي منحه الله تعالى ، فهي عظيمة ، وسامية ، فلا أكتفي من تلك المجموعة الهائلة من الكرامات والمعاجز بهذه العبارة "لولاك لما خلقت الأفلاك" ، كي يتصور قاصر أن ذلك من اختراعات الشيعة ، أو يزعم مقصّر أنه من مجعولات الغلاة ! بل أختار قصة المعراج التي صرّح بها القرآن الكريم ، بحيث أنَّ الإعتقاد بالمعراج من ضروريات الدين الحنيف ، ومنكره خارج عن ربقة الإسلام ، وحديثنا هنا مع المسلمين :
{سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (سورة الإسراء:١) .
{النَّجْمِ إِذا هَوى ، ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوى ، وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى ، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى ، وَ هُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ، ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى ، فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى ، فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ، ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ، أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى ، وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى ، عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى ، إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى ، ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى ، لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى} (سورة النجم:١-١٨) .
عقيدتنا أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) حصل له المعراج بهذا الجسد المبارك ، واللباس الذي كان لابساً إياه ، والعمامة التي كان معتماً بها ، والحذاء الذي كان منتعلاً به .
لقد طوى عالم الإمكان ، بدعوة من الخالق العظيم ، وقدرته ، وكما تصرّح به الروايات ، فإنه سار في ليلة واحدة ، من مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى ، ومن هناك إلى السماوات ، وفلك الأفلاك ، وتجاوز حدود عالم الملك ، فقطع عالم الملكوت والجبروت وبلغ عالم اللاهوت ، فكلم رب الأرباب ، قاب قوسين أو أدنى ، من دون وساطة جبرئيل ، وميكائيل ، وإسرافيل .
{عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى ، وَ هُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى} : لعله كان إلى هذه المرحلة ، يرافقه الملائكة ، وأمين الوحي . ففي بعض الروايات أن المراد من شديد القوى : هو جبريل . ولكن التفسير الأصح والمناسب لـ (شديد القوى) هو أنه الله تعالى لأنه (ذو القوة المتين) ، وعلى أية حال :
{ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى ، فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى} : هنا تعدّى حدود الملائكة المقربين ، ودخل إلى حظيرة الخلوة الإلهية ، حيث لا أثر لسوى الله تعالى ، حتى حملة العرش تندثر ، وتنمحي هنا ، ولا تستطيع أنْ تكسر هذا الحصار ، وتقترب أكثر ، فقد قال جبرئيل : "لو دنوت أنملة لاحترقت" .
فالحبيب بجسده المادي ، وهيكله الظاهري ، اقترب من جناب المحبوب ، وكلمه بلا واسطة ، وهناك :
{فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى} : ما الذي شاهده في ذلك الجو النوراني ، والمحيطات الهائلة ، اللامتناهية ، من النور ، والضياء ، والعظمة ، وما الذي سمعه ؟
لا أحد يدري غير الله ، ورسوله ، ونفس رسوله الذي هو حامل علمه ، علياً ، ، أمير المؤمنين (عليه السلام) بينما يصرح القرآن : {لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى} .
ونحن نعلم أنه لا آية أكبر من علي ، وذاته المقدسة في جرم الكبرياء . إن بصيرة الرسول (ص) نافذة ، وباصرته لا ترى إلا الحق ، فلا ريب هناك ، ولامَيْن (كذب) ، ولا زيغ ، ولا ضلال : {ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى} .
إنَّ المعاند المفتري ، وصدره الضيق ، هو الذي لا يتحمَّل الحقائق فيشكك فيها . بينما يقول الباري تعالى : {أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى} .
ثم يجيب بصراحة، قائلاً إنه لا يخطىء ، ولم يزغ عن الحق : {ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى ، لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى} .
والخلاصة : إن هذا الموجود اللاهوتي ، طوى جميع العوالم الإمكانية ، خلال ليلة ، أو دقائق (على اختلاف التعابير في الروايات) بجسمه الشريف ، وهذا الكيان البشري ، ولم يبق موضع في عالم الكون ، إلا ووطئه بقدمه الشريفة .
أي فيلسوف ، أو فلكي ، أو محاسب قدير ، يستطيع معرفة سرعة حركة الرسول ليلة المعراج ؟ ويقدر المسافة التي طواها ؟!
لا أحد يستطيع ذلك ، فلا مدقق حسابات ، ولا رياضي ، ولا عقل (الكتروني) ، ولا نبي مرسل ، ولا ملك مقرب ، يستطيع ذلك .
إن حساب ذلك ، وإحصاءه ، خارج عن قدرة ما سوى الله ، فالله أعلم بذلك ورسوله ، وأولياؤه .
تصور إن المسافة التي لا يستطيع أن يقطعها الضوء مع سرعته العجيبة ، في ملايين السنين الضوئية ، قطعها هذا الموجود الفذ ، في فترة قصيرة جداً !
فانظر إلى هذه الموهبة ، واعجب لهذه العظمة ، ودقق في هذه السرعة ! ثم أذعن لقدرة الله اللامتناهية .
أين مقام البشر ، ومقام خير البشر ؟!
إن الطينة النورانية لرسول الله (صلى الله عليه وآله) والتي شاركه فيها علي ، وفاطمة ، وأبناؤهما الأحد عشر ، هي التي خلقت من نور الله تعالى ، فعاد ذلك الوجود النوري ليصل إلى مقام ، أو أدنى من النور الإلهي ، الذي عمَّ كل الوجود .
لقد عاد إلى مهده الأول ، فرأى الآيات الكبرى هناك ، حيث لا طريق للملائكة المقربين ، ولا مجال لحملة العرش … ، هناك حيث الحبيب ومحبوبه ، ومن عنده علم ، الكتاب .
أجل صاحب البيت ، والضيف العظيم ، ووليد البيت ، هؤلاء هم المطلعون على سر تلك الخلوة !
نفهم من هذه المقدمات ، أن الحقيقة الطاهرة للرسول الأعظم ، هي أسمى من طينة البشر ، بل لا مجال للمقارنة !
إنه (ص) كان موجوداً لاهوتياً ، تردى برداء البشرية بإرادة الله ، ليقوم بهداية الناس ، كما كان جبرئيل أمين الوحي ، يتردى برداء البشرية أحياناً ، ويظهر بصورة دحية الكلبي .
قال تعالى : {وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ} (سورة الأنعام:٩) .
هذه المعجزة العظيمة ، تفوق كل معاجز الأنبياء المعصومين (عليهم السلام) وإذا أنكر أحد فضائل المعصومين ، ومعاجزهم ، فلا يسعه إنكار هذه المنقبة العظمى التي صرَّح بها القرآن الكريم .
وحتى لو قلنا بالمعراج الروحاني ، فإن ذلك يدل على سمو منزلتهم ، لأن سائر الأرواح لا طريق لها إلى مقام {أَوْ أَدْنى} ، في حين أن المعراج الجسماني من ضروريات الإسلام ، ومنكره بمنزلة الكافر ، وإن تظاهر بالإسلام .
إنَّ قصة المعراج تثبت إحاطة علم الرسول ، وهيمنته جميع العوالم الإمكانية ، وشرفه على جميع الأنبياء ، والمرسلين ، والملائكة المقربين ، ومع ذلك فهو عبد مطيع ، ومحتاج إلى حضرة ذي الجلال ، ونموذج قدرته السامية ، وإحاطته على اللامتناهية ...
فقولهم (عليهم السلام) : "نزهونا عن الربوبية ، وقولوا فينا ما شئتم ، ولن تبلغوا" منسجم مع الأدلة والبراهين المحكمة .
فما عسى المرء أن يقول تجاه هذا المقام المنيع ؟
أجل ، غاية ما نستطيع قوله في شأن المعصومين ، عليهم السلام ، أنهم عالمون بالغيب ، وعلمهم حضوري ، وإحاطي ، وقد جرى بحث مفصل ، واستدلالات عميقة ، حول هذه المسألة ، بينما مسألة المعراج ، تحلّ الإشكال ، وتأتي بالجواب القطعي ، لماذا ؟ :
لأن صاحب المعراج جميع زوايا الوجود ، بعينيه اللتين في رأسه ، فلا يبقى مجال للعلم الإرادي .
في هذا التجوال المبارك ، لم يبق مكان حتى يخفى على الرسول ، ويأتي دور السؤال : هل يعلم أو لا يعلم ؟
إن أشد المسائل غوراً ، في الغيب : الجنة والنار ، ومع ذلك فقد شاهدهما رسول الله ، صلى الله عليه وآله ، في أثناء المعراج ، وحكى طرفاً من أخبارهما للأصحاب بعد ذلك .
لقد أخبر بوجود بعض الناس في النار ، رغم أنهم كانوا أحياء في عصره ، فالمسألة تجاوزت طي المكان إلى طي الزمان أيضاً ، فلم يبق موضع يغيب عن ناظريه .
فمهما نقول في حق هؤلاء ، لا نزال مقصرين عن اللحوق بشأوهم ، ولذلك قالوا عليهم السلام : "ولن تبلغوا" ، أجل ، لا يبلغ أحد وصف الحقيقة .
هل نستطيع إذن أن نفهم سر المعراج ؟ واستيعاب السرعة الهائلة في هذا السر والسلوك ؟ وهل نتوصل إلى آلاف الأسرار التي تفوق الوهم، والخيال ، والحدس ؟ كلا .
غاية ما نقوله : إنهم ليسوا آلهة ، ولا يشاركون الله تعالى في فعله ، ولا يفعلون شيئا من دون إذن الله ، جل وعلا، بل إنهم عباد مقربون ، ومظاهر للصفات الربوبية ، والسفراء ، بين الله والبشر ، لا يستقلون بأمر مطلقاً : {بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} ، وهذه هي العقيدة الصحيحة ، والنمط الأوسط ، الذي يختلف عن عقيدة الغالين ، ومذهب القالين .
وبصورة موجزة ، فإن للمعصومين ، عليهم السلام ، ثلاث مراتب :
١ - المقام الحقي : حيث الملائكة ، وجميع ما سوى الله تعالى ، مأمورون بالخضوع للمعصومين ، عليهم السلام ، في هذه المرتبة . وعلمهم وإرادتهم ، يستمدان من علم الله تعالى ، وإرادته ، وقدرتهم مكتسبة من قدرة الباري ، جل وعلا .
ولا شيء في الوجود خارج عن دائرة سلطتهم ، وولايتهم الكبرى ، وفي هذه المرحلة ، حتى الأنبياء والمرسلين ، والملائكة المقربين ، يجهلون عظمة مراتبهم المعنوية .
ولقد ورد عنهم ، عليهم السلام : "لنا مع الله حالات ، لا يحتملها ملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، ولا مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان" .
٢ - المقام الملكي : في هذه الرتبة ، يحلقون كالملائكة ، نحو السماوات ، في خفة ولطافة ، وتُطوى لهم الأرض ، وينفذون في الأجسام الصلبة ، ويعبرون الجدران السميكة ، ويدخلون من الأبواب المغلقة .
٣ - المقام البشري : إنهم في هذه الرتبة ، يأكلون كما يأكل الناس ، ويشربون وينكحون ، ويستريحون ، كغيرهم من أفراد البشر ، تتأثر أجسامهم بالسّم والسهام ، وينطبق عليهم ، قوله تعالى : {قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} ، ولقد عبر صاحب الولاية الكبرى في رسالة له إلى معاوية ، عن هذه الحقيقة حيث يقول :
"لولا ما نهى الله من تزكية المرء لنفسه ، لذكر ذاكر فضائل جمة تعرفها قلوب المؤمنين ، ولا تمجها آذان السامعين ، فإنا صنايع ربنا ، والخلق بعد صنايع لنا ، لم يمنعنا قديم عزنا ، ولا عادي طولنا ، أن خلطناكم بأنفسنا ، فنكحنا وأنكحنا ، فعل الأكفاء ، ولستم هناك . . . " .
دقق في هذه العبارة الموجزة ، الصادرة عن أمير المؤمنين عليه السلام ، وهو لا يبالغ ، ولا يدَّعي جزافاً ، لترى صحة ما نعتقده ، علماً بأنهم ، عليهم السلام ، في المقام البشري واجدون للمقام الحقي ، والمقام الملكي أيضاً .
وأخيراً ، فإن الله تعالى ، جعل حبيبه ورسوله المختار ، يطَّلع على عظمة الخلق ، وأسرار التكوين ، وكشف له عن مرتبة عين اليقين ، وحق اليقين .
وقد نطق القرآن الكريم بقوله : {وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ} (سورة آل عمران:١٧٩) .
ويقول في موضع آخر : {عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ، إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ} (سورة الجن:٢٦-٢٧) .
فمن الواضح أن المحبوب تعالى ، جعـل حبيبه يطَّلع على كل ما في الغيب ، منذ اللحظة الأولى ، وكانت مسألة المعراج مرآة لانعكاس تلك المراتب في ذاته .
وأما تفسير (لقاء الرب) :
لقد ورد في تفسير لقاء الرب أنه بمعنى لقاء رحمة الرب ، فحذف المضاف كثير في اللغة العربية ، وقد استعمل في القرآن الكريم أيضاً ، كقوله تعالى : {وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (سورة الفجر:٢٢) ، أي جاء أمر ربك .
أما إذا قلنا : إنَّ لقاء الرب يعني لقاء الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، فهو مناسب للمقام ، لأنه رحمة الله الواسعة ، ورحمة للعالمين ، ووجه الله الباقي .
ومن البديهي أن اللقاء مع شخص ، لقاء مع وجهه ، لا مع ذاته وحقيقته ، وإذا كان الرسول ، صلى الله عليه وآله ، الوجه الباقي لذي الجلال ، حيث يقول : "من رآني فقد رأى الحق" ، صحَّ التعبير .
وقد ورد في الحديث الصحيح ، أنَّ من يواظب على زيارة عاشوراء ، كل يوم ، فكأنه زار الله فوق عرشه .
وهناك حديث مشابه حول زيارة أمير المؤمنين ، عليه السلام ، أيضاً .
إذن معنى الآية : إنَّ كل من يريد لقاء رسول الله وأمير المؤمنين ، في الجنة ، عند حوض الكوثر ، فليعمل عملاً صالحاً ، ولا يشرك بعبادة ربه أحداً ، إذ من البديهي ، أن لقاء ذات الله تعالى ، محال من قبل المخلوقين ! .
بعد نقل هذا المقال ، من كتاب (رسالة الإنسانية) من تأليف آية الله الإحقاقي ، وشرح وتفسير الجملتين : {قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} ، و {فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ} ، واستناده إلى الأحاديث والروايات المعتبرة الصحيحة ، والآيات القرآنية الكريمة ، المأثورة عن الأئمة المعصومين (ع) ، لم يعد أي مجال للشك ، والشبهة ، وأثبتنا أن محمداً (ص) ، وآل محمد (ع) ، مع كونهم من البشر ، فإنهم مخصوصون ومتميزون عن جميع البشر ، بالمقامات الرفيعة الشامخة ، والولاية المطلقة ، وتكون جميع الكائنات ما سوى الله تعالى ، وبأمر منه ، تحت سلطة ولايتهم ، وفي الوقت نفسه نقول عنهم ، إنهم عباد الرحمن الطاهرون المطيعون لرب الأرباب .
أما المساكين المنكرون لمقامات الأئمة المعصومين (ع) ، فليس لهم المعلومات الكافية لإثبات أباطيلهم ، فهم بالتالي لا يدركون تلك المقامات ، ولا يفهمونها ، فينظرون إلى الأشياء بالمنظار الأسود ، ولو تحرروا من عقدهم وعنادهم ، لشاهدوا عالم الأئمة المعصومين (ع) ، وسيعاً ، مليئاً بالفضائل ، ولعرفوا عند ذاك السر هذه الدرجات الرفيعة ، والمقامات الشامخة ، وما ذكرناه ليس إلا غيض من فيض لإدراك تلك الحقيقة المقدسة :
"يا علي ما عرفك إلا الله وأنا" .
قال أمير المؤمنين (ع) : "ظاهري إمامة ، وباطني غيب منيع لا يدرك" . وفيما قال (ع) إشارة إلى حقيقة الولاية الكلية المطلقة ، حتى إن الأنبياء السلف عاجزون عن دركها .
وما يتوجب علينا نحن ، هو الإيمان بتلك المقامات الرفيعة الشامخة ، على قدر معرفتنا ، ودرجة إيماننا ، ووعينا ، وإن عجزنا عن فهم سر من أسرارهم (ع ) الملكوتية ، فيجب أن نرد سبب ذلك إلى عجزنا عن الفهم والإدراك ، لأن ما نجهله أكثر مما نعلمه ، بل وغير قابل للقياس .
إننا عندما نكون عاجزين عن إدراك حقيقة أقل المخلوقات الإلهية ، حتى الفلاسفة والعلماء يظهرون عجزهم عن فهم ذلك ، فكيف نتجاسر ونروم التوصل إلى فهم أعلى وأسمى مقام الخلقة ، والإحاطة بأسرار ذلك المقام الملكوتي ؟! وفي المكان الذي لم يسمح لجبرئيل الأمين أن يتقدم فيه بحد محدود ، فكيف لنا ، نحن عباد الله تعالى ، ونحن أعجز ، وما هو تكليفنا أمام هذا الأمر المهم ؟
وبالمناسبة يقول مولى المتقين علي بن أبي طالب (ع) ، في حديث النور : "نزهونا عن الربوبية ، وارفعوا عنا حظوظ البشرية (يعني : الحظوظ التي تجوز عليكم) فلا يقاس بنــا أحد من الناس ، فإنا نحن الأسرار الإلهية المودعة في الهياكل البشرية ، والكلمة الربانية الناطقة في الأجساد الترابية ، وقولوا بعد ذاك ، ما استطعتم ، فإن البحر لا ينزف ، وعظمة الله لا توصف" .
وبعد نقل هذا الحديث ، نأتي إلى ختام بحثنا في هذا الباب سائلين الباري ، جل وعلا ، أن يملأ قلوبنا بنور الولاية المقدسة ، ويهبنا الصفاء والنور ، ويمحو ظلام الإنكار والعناد ، بحق محمد وآله الطاهرين، صلوات الله عليهم أجمعين .
قال رسول الله (ص) : "ألا ومن مات على حب آل محمد ، مات شهيداً ، ألا ومن مات على حب آل محمد ، مات مغفوراً له ، ألا ومن مات على حب آل محمد ، مات تائباً ، ألا ومن مات على حب آل محمد ، مات مؤمناً مستكمل الإيمان ، ألا ومن مات على حب آل محمد ، بشره ملك الموت بالجنة ، ثم منكر ونكير ، ألا ومن مات على حب آل محمد ، يُزف إلى الجنة كما تُزف العروس إلى بيت زوجها ، ألا ومن مات على حب آل محمد ، جعل الله زوار قبره ملائكة الرحمة ، ألا ومن مات على حب آل محمد ، مات على السنة والجماعة ، ألا ومن مات على بغض آل محمد ، جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه (آيس من رحمة الله !) ألا ومن مات على بغض آل محمد ، مات كافراً ، ألا ومن مات على بغض آل محمد ، لم يشم رائحة الجنة !" .
(ينابيع المودة : ۲۱/۱ ، ۱۸/۲ و ۸۸ الصواعق المحرقة : ص ۲۳۲) ، (فرائد السمطين : ٢٥٦/٢) .
كتاب الولاية الجزء الثاني ص١٧١-١٨٨