إذا أخذنا الآيات المذكورة بظاهرها ، يستلزم أنْ ننسب الخطأ والذنب إلى رسول الله (ص) ، وهذا يتعارض مع أصل عصمة النبي (ص) والإمام (ع) ، وكذلك مع الآيات القرآنية الأخرى ، والدلائل العقلية ، حيث أنَّ نسبة الخطأ والذنب إلى أولياء الله مخالفة للأصول المسلَّمة ، النقلية منها والعقلية ، ومع ماهية العصمة الذاتية فيهم.
وأجمعت الفرقة الناجية الإمامية الإثنا عشرية ، على عدم صدور الذنب والخطأ منهم لعصمتهم الذاتية عنها ، لأنَّ المعصوم من لا يقترف الذنب والخطأ ، كبيره وصغيره.
وللإستدلال والتوضيح ، نعرّف مادة «العصمة» لغوياً ، ثم نورد الأدلة على عصمة الأنبياء والأئمة (ع):
- تعريف العصمة والمعصوم:
العصمة في اللغة : بمعنى المنع والحفظ . قال علماء اللغة : «عصم الله فلاناً من المكروه : حفظه ووقاه».
وفي مصطلح علماء الإمامية : «العصمة ملكة ربانية تمنع من فعل المعصية ، والميل إليها ، مع القدرة عليها».
فالمحصل من التعريف أن المعصوم : من لا يرغب في ارتكاب الذنب ، ولا يميل إليه بشكل ذاتي ، مع تمكنه وقدرته عليه ، فهو ليس من لا يذنب فحسب ، بل لا يفكر ولا يخطر بباله ذلك (١).
وهذا مما لا يمكن تصور حصوله حتى من الأشخاص العاديين ، فضلاً عن المعصومين !
مثلاً : إنَّ من نشأ وترعرع في أحضان أسرة مؤمنة طاهرة ، لا يقدم على قتل إنسان آخر ، وإن كان قادراً عليه ، بل ولا يسمح لنفسه أنْ يفكر في قتل أحد.
ففي هذه الصورة ، يمكننا القول : إنَّ هذا معصوم عن صفة القتل . وهكذا من تربَّى تربية صالحة ، تشمئز نفسه وذاته ، عن ارتكاب الزنا بالمحصنة ، أو مع المحارم ، وحتى إنه يأبى التفكير في هكذا عمل شنيع ، وإنْ كانت لديه القدرة الجسمية الكاملة لارتكاب هذه الجريمة ، لولا وجدانه الذاتي الحي.
وأمثال هؤلاء كثيرون في المجتمعات البشرية العادية ، وتتوفر فيهم عصمة ذاتية ، بالنسبة إلى بعض الذنوب والمعاصي.
أما الفرق بينهم وبين المعصومين (ع) ، أنَّ الأشخاص العاديين تنحصر عصمتهم في ذنوب معدودة ، محصورة ، مع إمكان خضوعهم لبعض التغيير والتبديل ، بحسب الزمان ، والبيئة ، والمجتمع ، وحتى إمكانية نسخها منهم.
ولكن المعصومين (ع) معصومون بالنسبة إلى جميع الذنوب والمعاصي والخطايا ، ثابتين عليها ، ولا تتأثر عوامل التغيير الزمنية والمكانية فيهم ، تفاعلت صفة العصمة مع أرواحهم ، وقلوبهم ، فهي ملازمة لهم ، غير منفكة عنهم ، حيث قال الله ، عزَّ وجل: {إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ} يعني محمداً وآل محمد، {وَآلَ عِمْرانَ} يعني أنبياء بني إسرائيل {عَلَى الْعالَمِينَ} (١).
ومن البداهة بمكان : إنَّ وجه الإصطفاء هذا ، وسببه يكمن في العصمة الذاتية المتواجدة في الأنبياء (ع) ، والأئمة الطاهرين (ع) ، وبها امتازوا عن الخلق فهم يتمتعون بحصانة تجاه كل أنواع الكفر ، والشرك ، والذنوب الكبيرة والصغيرة ، والخطأ العمدي ، أو السهوي ، أو النسيان ، لأنهم يسقطون من مرتبة الإصطفاء الإلهي بمجرد صدور الذنب عنهم ، ولأنَّ العقل السليم لا يقبل أنْ يصدق أنَّ فرداً يذنب ، ويعصي الله ، عزَّ وجل ، ويكون مصطفى ومقرباً إليه!
ولنا على ذلك أدلة كثيرة ، نذكر بعضاً منها:
١- إنَّ الله ، تبارك وتعالى ، يأمر عباده بالطاعة التامة ، والمتابعة للنبي (ص) في ما يفعل ، ويأمر في آيات كثيرة ، منها:
( أ ) {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ} (٢).
(ب) {قُلْ أَطِيعُوا اللَّـهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّـهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ} (۳).
(ج) {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّـهَ وَ مَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} (٤).
( د ) {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعِقابِ} (۱).
(هـ) {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً} (٢).
إنَّ الملاحظ من مجموع هذه الآيات، أنَّ الله ، عز وجل ، أوجب على الناس جميعاً الطاعة التامة ، للرسول (ص) ، بل جعل طاعة الرسول من طاعته ، ومساوية لها.
فإذَن كيف تصح طاعته ، ومتابعته في أقواله وأفعاله ، على فرض صدور الذنب منه ، وعدم عصمته ؟ بل سنتبعه في الخطأ والذنب الصادر عنه ، إن صح الإفتراض!
وإذا افترضنا أنَّ الله ، عزَّ وجل ، أمر عباده بالطاعة التامة ، للنبي غير المعصوم ، ومتابعته - حتى في الذنوب - فإذن يلزم أن يكون الله أمر بالجمع بين الوجوب والحرمة : وجوب الطاعة ، وحرمة المعصية - وهذا يخالف الحكمة الإلهية ، فإنه من المستحيل أنْ يأمر الله عباده بمتابعة الرسول (ص) - وإن كان خاطئاً أو مذنباً - في بعض الآيات ، وفي البعض الآخر منها ، ينهى عباده عن الذنوب والمعاصي ! وهذه تناقض الأخرى ، والله عز وجل ، لا يأمر بالنقيض .
وهنا لا مجال - بحكم العقل - إلا أنْ نختار عصمة الرسول (ص) عن كل خطأ وذنب ، لأنه إذا لم يتصف النبي (ص) بالعصمة ، وكان يجوز الخطأ عليه ، لم يأمر الله الناس بطاعته ومتابعته ، وعندها نجد الأمر بالطاعة المطلقة والمتابعة ، بل جعل أقواله وأعماله أسوة للناس ومنهاجاً ، نقطع بعصمته ، وبراءته من كل خطأ صغر أم كبر ، وسهو ونسيان مؤدّيين للخطأ.
۲- يلزم من الإعتقاد بعدم عصمة الرسول (ص) ، والأئمة (ع) ، وجواز صدور الذنب والخطأ منهم ، القول : بأنهم ـ والعياذ بالله - يطيعون الشيطان ، ويتابعونه ! ذلك أنَّ حقيقة الذنب - والمعصية وماهيتها ، طاعة الشيطان وتنفيذ رغباته ، والقاءاته ومخالفاً ووساوسه ، والذي يطيعه في ذلك ، يكون من حزبه ، ومخالفاً للرحمن ، كما يقول الله ، عز وجل:
{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّـهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ} (۱) ، علماً بأنَّ القرآن يصف أهل البيت (ع) بأنهم حزب الله ، في قوله تعالى:
{أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَ يُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّـهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّـهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (۲).
٣- يلزم من افتراض صدور الذنب والخطأ منهم ، عليهم الصلاة والسلام ، أنْ يكونوا من «الفاسقين» ، لأنَّ «الفسق» : هو الخروج من طاعة الله ، عزَّ وجل ، والتزام طاعة الشيطان ، وهو ما يحصل بارتكاب الذنوب ، ويترتب على ذلك أنْ لا تقبل شهادتهم ، عليهم الصلاة والسلام ، لأنَّ الله يأمر بـردّ شـهــادة الفاسقين ، في قوله تعالى : {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ} (۱) ، وكذلك في قوله تعالى : {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (۲) .
وبديهي أنَّ ردّ شهادة الأنبياء والأولياء ، يتعارض مع حكمة إرسالهم ، وهذا واضح البطلان ، لأنهم سفراء الله ، عز وجل ، وخلفاؤه على الأرض ، يبلغون ما حملوا من الله إلى البشر ، فيجب على الناس جميعاً الإستماع إليهم ، وتنفيذ أوامرهم ، دون تردد أو سؤال ، لأنَّ في الردّ عليهم ، وعدم قبول أوامرهم ، رفض للوحي ، ولأوامر السماء .
٤- إذا كان النبي (ص) ، والأئمة (ع) غير معصومين ، ويصدر منهم الذنب والمعصية ، وجب على الناس إنكار ذلك عليهم ، من باب (النهي عن المنكر) ، وكذلك إيذاءهم ، وإجراء الحد والقصاص عليهم في بعض الموارد ، ولكن من المعلوم أنَّ إيذاء الأنبياء فعل حرام ومحرم في القرآن ، ومن يقوم بذلك فهو ملعون بقوله تعالى : {الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّـهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} (۳)، وكذلك في الآية الشريفة : {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّـهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّـهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً} (٤)
وعندما نرى أنَّ الله ، عزَّ وجل ، ينهى عن إيذاء الرَّسول (ص) ، ويشدد على ذلك ، نعرف بالضرورة أنهم (ع) ، لا يعصون الله ، ولا تصدر منهم الذنوب ، ليستحقوا بذلك الإيذاء ، والقصاص ، والحد!
٥- إنهم ، عليهم السلام ، على فرض ارتكابهم الذنوب والمعاصي ، لا يستحقون منزلة النبوة والإمامة ، لأنَّ مسؤولية النبي والإمام : منع الناس عن الخطأ والذنب ، وإرشادهم إلى طاعة الله ، عزَّ وجل ، والابتعاد عن وساوس الشيطان .
وكيف يمكن أنْ يبعث الله ، عزَّ وجل ، من يمنع الناس عن الذنوب والمعاصي ، وهو يرتكبها ، وتصدر منه؟!
وفي هذا القول إساءة إلى الله ، عزَّ وجل ، وتعارض لحكمته وعدله.
والحال ، إنَّ الله يصرّح في القرآن الشريف بأنَّ عهد النبوة والإمامة لا يناله الظالمون ، وذلك عندما أخبر الله سبحانه إبراهيم (ع) بإمامته ، بقوله تعالى : {إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً} ، قــال إبراهيم (ع) طالباً تلك المنزلة لذريته : {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} ، فأجابه الله ، عز وجل ، بقوله : {لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (۱)
وعندما نجد أنَّ الله ، عزَّ وجل ، شرَّف نفراً من الناس ، برتبة النبوة والإمامة ، نفهم أنه لا يصدر عنه أي نوع من الظلم ، والذنب ، والخطأ ، وإنْ لم يكن كذلك ، وصدر أو يصدر منه الذنب ، لما فُضّل بهذه الفضيلة ، والمنزلة .
وواضح من هذا كله ، أن الذنوب والمعاصي تتنافى ومنزلة النبوة والرسالة ، وأنَّ بعث الأنبياء والرسل ، وجعل الأئمة بعدهم ، كل ذلك من أجل هداية الناس إلى سواء السبيل ، وعمل الخير وتحصيل الثواب ، ونهيهم وردعهم عن الذنوب والمعاصي ، وهذا لا يتماشى مع ارتكابهم مثل ذلك ، وفي هذه الفرضية اجتماع للنقيضين ، وهو محال ، ولا يمكن للإنسان العاقل أنْ يتصور فيهم مثل ذلك ، إلا أن يكون ناقص العقل ، أو يكون في قلبه مرض.
وإذا أثبتنا بالأدلَّة المذكورة «عصمة الأنبياء ، والأئمة ، عليهم الصلاة والسلام» ، عن الخطأ والذنب ، وحتى السهو والنسيان ، لا بدَّ أنْ نذكر تأويل أهل البيت (ع) ، للآيات القرآنية ، التي تدل في ظاهرها على صدور الذنب والمعصية منهم ، سلام الله عليهم ، لنقف على المقصود الحقيقي من تلك الآيات المغايرة لظاهرها ، ومن الله التوفيق وعليه التكلان: