الإجماع المطلق

 الإجماع المطلق

هو عبارة عن ادعاء الإجماع بشكل مطلق ، من دون تحديد ، كما في حكم الإحرام من مكة لحج التمتع ، ولم يبيَّن هل المراد من مكة الحديثة والقديمة ، أم القديمة فقط؟.


قال الشيخ محمد رضا المظفر: 

(الإجماع أحد معانيه في اللغة : الاتفاق والمراد منه في الاصطلاح : اتفاق خاص ، وهو إما اتفاق الفقهاء من المسلمين على حكم شرعي ، أو اتفاق أهل الحل والعقد من المسلمين على الحكم ، أو اتفاق أُمة محمد [(صلى الله عليه وآله وسلم)] على الحكم على اختلاف التعريفات عندهم ، ومهما اختلفت هذه التعبيرات ، فإنها - على ما يظهر - ترمي إلى معنى جامع بينها ، وهو : «اتفاق جماعة لاتفاقهم شأن في إثبات الحكم الشرعي».


ولذا استثنوا من المسلمين سواد الناس وعوامَّهم ، لأنهم لا شأن لآرائهم في استكشاف الحكم الشرعي ، وإنما هم تبع للعلماء ولأهل الحل والعقد.


وعلى كل حال ، فإن هذا «الإجماع» بما له من هذا المعنى ، قد جعله الأصوليون من أهل السنَّة ، أحد الأدلة الأربعة - أو الثلاثة - على الحكم الشرعي ، في مقابل الكتاب والسنَّة.


أما الإمامية فقد جعلوه أيضاً أحد الأدلة على الحكم الشرعي ، ولكن من ناحية شكلية واسمية فقط ، مجاراة للنهج الدراسي في أصول الفقه عند السنيين ، أي أنهم لا يعتبرونه دليلاً مستقلاً في مقابل الكتاب والسنة ، بل إنما يعتبرونه إذا كان كاشفاً عن السنة ، أي عن قول المعصوم.


فالحجية والعصمة ليستا للإجماع ، بل الحجة في الحقيقة هو قول المعصوم ، الذي يكشف عنه الإجماع عندما تكون له أهلية هذا الكشف.


ولذا توسع الإمامية في إطلاق كلمة «الإجماع» ، على اتفاق جماعة قليلة ، لا يسمى اتفاقهم في الاصطلاح إجماعاً ، باعتبار أن اتفاقهم يكشف كشفاً قطعياً عن قول المعصوم ، فيكون له حكم الإجماع ، بينما لا يعتبرون الإجماع الذي لا يكشف عن قول المعصوم ، وإن سمِّي إجماعاً بالاصطلاح.


وهذه نقطة خلاف جوهرية في الإجماع ، ينبغي أن نجليها ونلتمس الحق فيها ، فإن لها كل الأثر في تقييم الإجماع من جهة حجيته) (١).


من المعروف والمشهور ، أنّ الأدلة الأربعة هي الكتاب والسنة والإجماع والعقل ؛ أما الكتاب والسنة والعقل ، فلا خلاف بين الأصوليين على حجيتها ، وأما الإجماع ففيه خلاف ، بل ذهب البعض وهو الأكثر ، إلى أنه لا يوجد إجماع أصلاً ، والبعض جعل الإجماع كون المعصوم من ضمن المجمعين ، وعلى هذا يخرج الإجماع إلى سنّة لا إجماع.


والبعض قال بحجية الإجماع من باب اللطف ، كما ذهب إلى ذلك شيخ الطائفة الشيخ الطوسي ، وكانت العلماء بعد الشيخ الطوسي رضوان الله عليه ، يتعبدون بإجماعات الشيخ الطوسي إلى مائة سنة ، ثم جاء بعده ابن إدريس الحلي رضوان الله عليه فأبطل إجماعات الشيخ الطوسي ، وقال كل الإجماعات التي ذكرها الشيخ غير متحققة ، فيها خلاف بين العلماء والفقهاء ، فأبطلها جميعاً. 

قال والدي خادم الشريعة الميرزا عبد الرسول الإحقاقي (رحمه الله) : (إنه لا يوجد هناك إجماع أصلاً) ، والبعض من قال بحجية الإجماع على أنه كاشف عن قول المعصوم (عليه السلام) وهذا لم يتمّ.


قال الشيخ مرتضى الأنصاري (رحمه الله): 

(الأمر الثاني : أن الإجماع في مصطلح الخاصة ، بل العامة - الذين هم الأصل له وهو الأصل لهم - هو : اتفاق جميع العلماء في عصر ، كما ينادي بذلك تعريفات كثير من الفريقين ، قال في التهذيب : الإجماع هو اتفاق أهل الحل والعقد من أُمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).


وقال صاحب غاية البادئ - شارح المبادئ ، الذي هو أحد علمائنا المعاصرين للعلامة (قدس سره) - : الإجماع في اصطلاح فقهاء أهل البيت (عليهم السلام) هو : اتفاق أُمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) على وجه يشتمل على قول المعصوم انتهى.


وقال في المعالم : الإجماع في الاصطلاح : اتفاق خاص ، وهو اتفاق من يعتبر قوله من الأُمة ، انتهى.


وكذا غيرها من العبارات المصرحة بذلك في تعريف الإجماع وغيره من المقامات ، كما تراهم يعتذرون كثيراً عن وجود المخالف بانقراض عصره. 


ثم إنه لمّا كان وجه حجية الإجماع عند الإمامية ، اشتماله على قول الإمام (عليه السلام) ، كانت الحجية دائرة مدار وجوده (عليه السلام) في كل جماعة هو أحدهم ، ولذا قال السيد المرتضى : إذا كان علةَ كونِ الإجماعِ حجةً كونُ الإمامِ فيهم ، فكل جماعة – كثرت أو قلَّت - كان قول الإمام في جملة أقوالها ، فإجماعها حجة ، وأن خلاف الواحد والاثنين إذا كان الإمام أحدهما - قطعاً أو تجويزاً - يقتضي عدم الاعتداد بقول الباقين وإن كثروا ، وأن الإجماع بعد الخلاف كالمبتدأ في الحجية ، انتهى.


وقال المحقق في المعتبر – بعد إناطة حجية الإجماع بدخول قول الإمام (عليه السلام) - : ( إنه لو خلا المائة من فقهائنا من قوله لم يكن قولهم حجة ، ولو حصل في اثنين كان قولهما حجة) (١) انتهى.


وقال العلامة (رحمه الله) - بعد قوله : (إن الإجماع عندنا حجة لاشتماله على قول المعصوم - : وكل جماعة قلّت أو كثرت ، كان قول الإمام (عليه السلام) في جملة أقوالها ، فإجماعها حجة لأجله ، لا لأجل الإجماع) (١) انتهى. 


هذا ولكن لا يلزم من كونه حجة تسميته إجماعاً في الاصطلاح ، كما أنه ليس كل خبر جماعة ، يفيد العلم متواتراً في الاصطلاح.


وأما ما اشتهر بينهم : من أنه لا يقدح خروج معلوم النسب واحداً أو أكثر ، فالمراد أنه لا يقدح في حجية اتفاق الباقي ، لا في تسميته إجماعاً ، كما علم من فرض المحقق (قدس سره) الإمام (عليه السلام) في اثنين . نعم ظاهر كلمات جماعة يوهم تسميته إجماعاً ، حيث تراهم يدَّعون الإجماع في مسألة ، ثم يعتذرون عن وجود المخالف بأنه معلوم النسب ، لكن التأمل الصادق يشهد ، بأن الغرض الاعتذار عن قدح المخالف في الحجية ، لا في التسمية . نعم ، يمكن أن يقال : إنهم قد تسامحوا في إطلاق الإجماع ، على اتفاق الجماعة التي علم دخول الإمام (عليه السلام) فيها ، لوجود مناط الحجية فيه ، وكون وجود المخالف غير مؤثر شيئاً.


وقد شاع هذا التسامح ، بحيث كاد أن ينقلب اصطلاح الخاصة ، عما وافق اصطلاح العامة ، إلى ما يعمّ اتفاق طائفة من الإمامية ، كما يعرف من أدنى تتبع الموارد الاستدلال ، بل إطلاق لفظ «الإجماع» بقول مطلق ، على إجماع الإمامية فقط - مع أنهم بعض الأُمة لا كلهم - ليس إلا لأجل المسامحة ، من جهة أن وجود المخالف كعدمه ، من حيث مناط الحجية.


وعلى أي تقدير : فظاهر إطلاقهم إرادة دخول قول الإمام (عليه السلام) في أقوال المجمعين ، بحيث يكون دلالته عليه بالتضمن ، فيكون الإخبار عن الإجماع ، إخباراً عن قول الإمام (عليه السلام) ، وهذا هو الذي يدل عليه كلام المفيد ، والمرتضى ، وابن زهرة ، والمحقق والعلامة ، والشهيدين ، ومن تأخر عنهم. 


وأما اتفاق من عدا الإمام (عليه السلام) ، بحيث يكشف عن صدور الحكم عن الإمام (عليه السلام) ، بقاعدة اللطف ، كما عن الشيخ (رحمه الله).


أو التقرير كما عن بعض المتأخرين ، أو بحكم العادة القاضية باستحالة توافقهم على الخطأ ، مع کمال بذل الوسع ، في فهم الحكم الصادر عن الإمام (عليه السلام) ، فهذا ليس إجماعاً اصطلاحياً ، إلا أن ينضم قول الإمام (عليه السلام) - المكشوف عنه باتفاق هؤلاء - إلى أقوالهم ، فيسمى المجموع إجماعاً بناءً على ما تقدم من المسامحة في تسمية اتفاق جماعة ، مشتمل على قول الإمام (عليه السلام) إجماعاً ، وإن خرج عنه الكثير أو الأكثر.


فالدليل في الحقيقة هو اتفاق من عدا الإمام (عليه السلام) ، والمدلول الحكم الصادر عنه (عليه السلام) ، نظير كلام الإمام (عليه السلام) ومعناه.


فالنكتة في التعبير عن الدليل بالإجماع - مع توقفه على ملاحظة انضمام مذهب الإمام (عليه السلام) ، الذي هو المدلول إلى الكاشف عنه - وتسمية المجموع دليلاً ، هو التحفظ على ما جرت عليه سيرة أهل الفن ، من إرجاع كل دليل إلى أحد الأدلة المعروفة بين الفريقين ، أعني الكتاب والسنة ، والإجماع والعقل ، ففي إطلاق الإجماع على هذا مسامحة في مسامحة) (۱).


يعني لا وجود للإجماع في الواقع ، على الحقيقة من حيث هو إجماع ، إنما هو إطلاق لفظي ، لا واقع له على الحقيقة ، فهو كما ذكر الشيخ الأنصاري (رحمه الله) مسامحة في مسامحة.


وقال الشريف المرتضى : 

(اعلم أن الكلام في هذه المسألة - على أصولنا ، في علة كون الإجماع حجة - كالمستغنى عنه ، لأن الإجماع إذا كان علة كونه حجة كون الإمام فيه ، فكل جماعة - كثرت أو قلّت - كان قول الإمام في جملة أقوالها ، فإجماعها حجة.


لأن الحجة إذا كانت ، هو قوله ، فبأي شيء اقترن ، لا بد من كونه حجة ، لأجله ، لا لأجل الإجماع ، وقد اختلف قول من خالفنا في هذه المسألة ؛ فمنهم من قال : إن الإجماع الذي هو حجة هو إجماع جميع الأُمة المصدقة بالرسول (عليه السلام).


ومنهم من قال : بل هو إجماع المؤمنين خاصة ، وفيهم من ذهب إلى أن الإجماع الذي هو حجة هو إجماع الفقهاء ، ولا معنى لخوضنا في هذا الخلاف ، لان أصولنا تقتضي سواه ، وقد بيّنا ما يجب أن يعتمد.


واختلفوا في الواحد والاثنين إذا خالفا ما عليه الجماعة ؛ فمنهم من قال : لا يعتد بخلاف واحد واثنين ، لأنه شاذ خارج عن قول الجماعة.


ومنهم من قال : إن خلاف الواحد والاثنين يخرج القول من أن يكون إجماعاً . وهذا القول الثاني أشبه بالصواب على مذاهبهم ، لأن الإجماع الذي هو حجة ، إذا كان هو إجماع الأُمة أو المؤمنين ، فخروج بعضهم عنه يخرجه عن تناول الاسم.


والذي يجب أن نعول عليه في هذه المسألة أن نقول : ليس يخلو الواحد والاثنان المخالفان لما عليه الجماعة ، من أن يكون إمام الزمان المعصوم أحدهما قطعاً أو تجويزاً ، أو يعلم أنه ليس بأحدهما قطعاً ويقيناً.


والقسم الأول : يقتضي أن يكون قول الجماعة - وإن كثرت - هو الخطأ ، وقول الواحد والاثنين - لأجل اشتماله على قول الإمام - هو الحق والحجة.


فأما القسم الثاني : فإنا لا نعتدّ فيه بقول الواحد والاثنين ، لعلمنا بخروج قول الإمام عن قولهما ، وأن قوله في أقوال تلك الجماعة ، بل نقطع على أن إجماع تلك الجماعة - وإن لم تكن جميع الأُمة - هو الحق والحجة ، لكون الإمام فيه ، وخروجه عن قول من شذ عنها ، وخالفها.


ومن تأمل كلامنا في هذا الفصل ، وما حققناه وفصلناه ، من سبب كون الإجماع حجة وعلته ، علم استغناءنا عن الكلام في ما تكلم مخالفونا عليه في كتبهم من أقسام الإجماع ، وما يراعى فيه إجماع الأُمة كلها ، أو العلماء ، أو الفقهاء ، وما بينهم في ذلك من الخلاف.


فإن خلافهم في ذلك إنما ساغ ، لأن أصولهم في علة كون الإجماع حجة غير أصولنا ، ففرعوا الكلام بحسب أصولهم ، ونحن مستغنون عن الكلام في تلك الفروع ، لأن أصولنا لا تقتضيها ، وقد بيّنا من ذلك ما يرفع الشبهة) (١).


إذن الإجماع بمعناه اللغوي وأيضاً الشرعي ، أي إجماع جميع العلماء ، أو غير العلماء ، الصحابة أو غيرهم على حكم معيَّن ، في كل طبقة من الطبقات ، لا وجود له . ويكفي في بطلان الإجماع ، أنه اتخذ عند البعض من المخالفين ، دليلاً ومؤيداً لمن تقدم على أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ، بقولهم : لا تجتمع أُمتي على خطأ ، مع أن اجتماعهم ، حتى في هذا المورد لم يتحقق ، لأن جل وأفاضل الأصحاب ، لم يبايعوا ولم يتفقوا على من اختاروه ، وهذا واضح أبين من الأمس ، وأجلى من الشمس!.