وقد تفطن ببعض ما قررناه ، ثلة نقاد المتأخرين ، فأسقطوا كثيراً من التضعيفات القديمة ، عن نظر الاعتبار . ولنذكر شيئاً من كلمات بعضهم في المقام ، ليعلم أنّا لسنا بأول من سبق إلى هذا الطعن والإنكار.
قال أبو علي صاحب منتهى المقال في أحوال الرجال ، في ترجمة محمد بن سنان ، بعد نقل الأقوال المختلفة في حقه ما هذا لفظه:
(وللسيد السعيد رضي الدين بن طاووس (رحم الله) ، كلام في محل هذا وأشباهه محصله أن جلالة قدرهم ، وشدة اختصاصهم بأهل العصمة سلام الله عليهم ، هو الذي أوجب انحطاط منزلتهم عند الشيعة ، لأنهم (عليه السلام) لشدة اختصاصهم بهم ، أطلعوهم على أسرار ، مصونة عن الأغيار ، وخاطبوهم بما لا تحتمله أكثر الشيعة ، فنسبوا إلى الغلو وارتفاع القول وما شاكلهما) (۱) انتهى ما نقله عن السيد (رحمه الله).
وقال المولى الأجل محمد باقر بن أكمل البهبهاني ، (رحم الله) في تعليقه على رجال الميرزا محمد الاسترابادي:
(اعلم أن الظاهر أن كثيراً من القدماء سيما القميين منهم وابن الغضائري ، كانوا يعتقدون في الأئمة (عليهم السلام) منزلة خاصة من الرفعة والجلالة ، ومرتبة معينة من العصمة والكمال ، بحسب اجتهادهم ورأيهم ، وما كانوا يجوزون التعدي عنها ، وكانوا يعدون التعدي عنها ارتفاعاً وغلواً ، على حسب معتقدهم حتى إنهم جعلوا مثل نفي السهو عنهم ، بل ربما جعلوا مطلق التفويض إليهم ، أو التفويض الذي اختلف فيه كما سنذكر أو المبالغة في معجزاتهم ، ونقل العجائب من خوارق العادات عنهم ، أو الإغراق في شأنهم وإجلالهم ، وتنزيههم عن النقائص ، وإظهار كثير قدرة لهم ، وذكر علمهم بمكنونات السماء والأرض ، ارتفاعاً أو مورثاً للتهمة به ، سيما بجهة أن الغلاة كانوا مختفين في الشيعة ، مخلوطين بهم مدلسين.
وبالجملة ، الظاهر أن القدماء أيضاً كانوا مختلفين في المسائل الأصولية ، فربما كان شيء عند بعضهم ، فاسداً أو كفراً أو غلواً أو تفويضاً ، أو تشبيهاً أو غير ذلك ، وكان عند الآخر مما يجب اعتقاده ، أو لا هذا ولا ذاك ، وربما كان منشأ جرحهم بالأمور المذكورة ، وجدان الرواية الظاهرة فيما منهم ، كما أشرنا آنفاً ، أو ادعاء أرباب المذاهب كونه منهم ، أو روايتهم عنه ، وربما كان المنشأ روايتهم المناكير عنه ، إلى غير ذلك . فعلى هذا ربما يحصل التأمل في جرحهم ، بأمثال الأمور المذكورة.
ومما ينبه على ما ذكرنا ملاحظة ما سيذكر في تراجم كثيرة ... إلى أن قال:
وسيجيء في إبراهيم بن عمر وغيره ، ضعف تضعيفات الغضائري ، وفي إبراهيم بن إسحاق ، وسهل بن زياد ، ضعف تضعيف أحمد بن محمد بن عيسى ، مضافاً إلى غيرهما من التراجم فتأمل) (۱) انتهى كلامه زيد مقامه.
وقال في ترجمة سهل بن زياد الأدمي ، على ما نقل عنه تلميذه أبو علي في منتهى المقال ، بعد ذكر تضعيف بعض أهل الرجال له ، وقول ابن الغضائري إن أحمد بن عيسى أخرجه من قم ، وأظهر البراءة منه ، ونهى الناس عن السماع منه والرواية عنه.
قال (رحمه الله) :
(ظني أن منشأ التضعيف ، حكاية أحمد بن محمد بن عيسى ، وإخراجه له من قم ، وشهادته عليه بالغلو والكذب ، وهذا مما يضعف التضعيف ، ويقوي التوثيق عند المنصف المتأمل ، سيما المطلع على حالة أحمد ، وما فعله بالبرقي ، وقاله في علي بن محمد بن سبرة وردّ النجاشي عليه) (۲).
وقال ابن داود:
(إن أهل قم كانوا يخرجون الراوي بمجرد توهم الريب) (۱) ، (وفي ترجمة محمد بن أورمة ما يقويه ، سيما أنه صنف كتاباً في الرد على الغلاة ، وورد عن الهادي (عليه السلام) أنه بريء مما قذف به ، ومع ذلك كانوا يرمونه بالغلو) (٢).
ثم إنه (رحمة الله) ساق الكلام في تأييد ما ذكره إلى أن قال:
(وقال جدي (رحم الله) - يعني مولانا محمد تقي المجلسي - :
اعلم أن أحمد بن محمد بن عيسى ، أخرج جماعة من قم لروايتهم عن الضعفاء ، وإيرادهم المراسيل في كتبهم ، وكان اجتهاداً منه ، والظاهر خطؤه ، ولكن كان رئيس قم ، والناس مع المشهورين إلا من عصمه الله ، ولو كنت تلاحظ ما رواه في الكافي ، في باب النص على الهادي (عليه السلام) ، وإنكاره النص لتعصب الجاهلية ، لما كنت تروي عنه شيئاً ، ولكنه تاب ونرجو أن يكون تاب الله عليه) (۳) انتهى ما أردنا نقله من كلامه (رحمة الله).
وقال في ترجمة إبراهيم بن إسحاق الأحمر النهاوندي:
(يروي عنه أحمد بن محمد بن عيسى مع كثرة غمزه في الرواة ، بل والأجلة ، وطعنه في من يروي عن الضعفاء ، وأخرج من قم جمعاً لذلك) (٤) انتهى.
وقال الشيخ الجليل أبو الحسن الشريف النباطي ، وهو من أجل تلامذة مولانا محمد باقر المجلسي (رحمه الله) ، وحاله مذكور في لؤلؤة البحرين ، لشيخنا الشيخ يوسف البحراني . قال (رحمه الله) في مقدمات تفسيره ، المسمى بمشكاة الأسرار ما هذا لفظه:
(اعلم أن الناس في تعريف أحوال الأئمة (عليهم السلام) على طرفي نقيض ، فإن جماعة منهم سلكوا في ذلك مسلك الإفراط ، حتى ارتفعوا إلى حد الغلو والتفويض ، وجمعاً منهم أخذوا في طريق التفريط ، بحيث أنكروا كثيراً مما ورد في فضائلهم صلوات الله عليهم ، والعلة في الجميع كما سيظهر شيء واحد ، وهو توهم استقلال العقل في إدراك أمثال هذه الأمور ، التي لا يمكن الوصول إلى ما هو الحق منها ، إلا من طريق الأخذ عن الأئمة العالمين ، والرجوع إلى ما ورد ثابتاً عنهم في إثباته ونفيه ، مع الفهم السليم ، والإدراك المستقيم ، والتمسك بالعلم المبين ، دون الاعتماد على الرأي والظن والتخمين . ولهذا تراهم مختلفي الأحوال باختلاف عقولهم وأحلامهم ، متبايني الآراء والأقوال ، بتباين أذهانهم وأفهامهم ، فكم من قائل قول في ذلك كفَّر غيره ، وكفَّره غيره …) (۱).