فعلم الدراية هو المسؤول عن صحة الرواية وحسنها وثقتها وضعفها ، على حسب القواعد المتخذة في هذا العلم ، وعلى حسب ذوق الفقيه ورأيه ومذهبه في التقييم للراوي .
ولمّا كان علم الحديث من الأمور المهمة في التشريع في ما يخص الناس ، أكد المعصومون (عليهم السلام) ، على خلوّ الحديث من التحريف والبدعة ، كما روى علي بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن حماد بن عيسى ، عن إبراهيم بن عمر اليماني ، عن أبان بن أبي عياش ، عن سليم بن قيس الهلالي ، قال : قلت لأمير المؤمنين (عليه السلام) :
إني سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذر شيئاً من تفسير القرآن ، وأحاديث عن نبيّ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غير ما في أيدي الناس ، ثم سمعت منك تصديق ما سمعت منهم ، ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة ، من تفسير القرآن ومن الأحاديث عن نبيّ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنتم تخالفونهم فيها ، وتزعمون أن ذلك كله باطل ، أفترى الناس يكذبون على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) متعمدين ، ويفسرون القرآن بآرائهم؟ قال : فأقبل عليَّ
فقال : قد سألت فافهم الجواب . .
إن في أيدي الناس حقاً وباطلاً ، وصدقاً وكذباً ، وناسخاً ومنسوخاً، وعاماً وخاصاً ، ومحكماً ومتشابهاً ، وحفظاً ووهماً ، وقد كُذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على عهده حتى قام خطيباً فقال:
أيها الناس ، قد كثرت عليَّ الكذابة ، فمن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار! ثم كذب عليه من بعده ، وإنما أتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس:
رجل منافق يظهر عليه الإيمان ، متصنع بالإسلام لا يتأثم ولا يتحرج أن يكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) متعمداً.
فلو علم الناس أنه منافق كذاب ، لم يقبلوا منه ولم يصدقوه ، ولكنهم قالوا هذا قد صحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ورآه وسمع منه ، وأخذوا عنه ، وهم لا يعرفون حاله ، وقد أخبره الله عن المنافقين بما أخبره ووصفهم بما وصفهم فقال عزّ وجلّ:
{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} (۱)
ثم بقوا بعده فتقربوا إلى أئمة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والكذب والبهتان فولوهم الأعمال ، وحملوهم على رقاب الناس ، وأكلوا بهم الدنيا ، وإنما الناس مع الملوك والدنيا إلا من عصم الله ، فهذا أحد الأربعة…
ورجل سمع من رسول الله شيئاً لم يحمله على وجهه ووهم فيه ، ولم يتعمد كذباً فهو في يده ، يقول به ويعمل به ويرويه فيقول :
أنا سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
فلو علم المسلمون أنه وهم لم يقبلوه ، ولو علم هو أنه وهم لرفضه …
ورجل ثالث سمع من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شيئاً أمر به ثم نهى عنه وهو لا يعلم ، أو سمعه ينهى عن شيء ثم أمر به وهو لا يعلم ، فحفظ منسوخه ولم يحفظ الناسخ ، ولو علم أنه منسوخ لرفضه ، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه …
وآخر رابع لم يكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، مبغض للكذب خوفاً من الله عزّ جلّ وتعظيماً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، لم يسهُ ، بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به كما سمع لم يزد فيه ولم ينقص منه ، وعلم الناسخ من المنسوخ ، فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ .
فإنَّ أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مثل القرآن ناسخ و منسوخ وخاص وعام ومحكم ومتشابه ، وقد كان يكون من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الكلام له وجهان:
كلام عام وكلام خاص مثل القرآن وقال الله عزّ و جلّ في كتابه :
{وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (۱)
فيشتبه على من لم يعرف ولم يدرِ ما عنى الله به ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وليس كل أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يسأله عن الشيء فيفهم ، كان منهم من يسأله ولا يستفهمه ، حتى أن كانوا ليحبون أن يجيء الأعرابي والطارئ فيسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى يسمعوا) (٢).
في هذا الحديث بيَّن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ، مسالك الصحابة والرواة للحديث على هذه الأقسام المذكورة ، ومن هنا اختلف من اختلف ، وصحَّح من صحَّح ، وضعَّف من ضعَّف ، فلا بد من معرفة لحن قول المعصوم (عليه السلام) ، لمعرفة ما يصح العمل به وما لا يصح ، كما يأتي عليه التفصيل فيما بعد.