إن الزمن الذي عاشه الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) ، من أصعب الأوقات التي مرت على أهل البيت (عليه السلام) مطلقاً ، حتى إن الإمام جعفراً الصادق حين نصِّه على ابنه الإمام موسى (عليه السلام) بالإمامة ، يؤخر الجواب عن السائل ، حتى تأتي فرصة أُخرى ووقت مناسب يخبره بإمامة الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) ، كما روي عن فيض بن المختار قال : قلت لأبي عبد الله جعفر الصادق (عليه السلام) :
جعلت فداك فقد كنا لا نشك أن الرحال تنحط إليه من بعدك ، وقد قلت فيه ما قلت ؟ فإن كان ما نخاف وأسأل الله العافية فإلى من؟
قال : فأمسك عني ، فقبَّلت ركبته ، وقلت : ارحم سيدي فإنما هي النار ، وإني والله لو طمعت أن أموت قبلك لما باليت ، ولكني أخاف البقاء بعدك ،
فقال لي : مكانك .
ثم قام إلى ستر في البيت فرفعه ، فدخل ثم مكث قليلاً ، ثم صاح : يا فيض ادخل .
فدخلت ، فإذا هو في المسجد قد صلى فيه ، وانحرف عن القبلة ، فجلست بين يديه ، فدخل إليه أبو الحسن (عليه السلام) وهو يومئذ خماسيّ ، وفي يده دِرَّة ، فأقعده على فخذه ،
فقال له : بأبي أنت وأمي ما هذه المخفقة بيدك ؟
قال : مررت بعليّ أخي ، وهي في يده يضرب بهيمة فانتزعتها من يده .
فقال أبو عبد الله (عليه السلام) : يا فيض إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أفضيت إليه صحف إبراهيم وموسى (عليهم السلام) ، فائتمن عليها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً (عليه السلام) ، وائتمن عليها علي (عليه السلام) الحسن (عليه السلام) ، وائتمن عليها الحسن (عليه السلام) الحسين (عليه السلام) ، وائتمن عليها الحسين (عليه السلام) علي بن الحسين (عليهم السلام) ، وائتمن عليها علي بن الحسين (عليهم السلام) محمد بن علي (عليهم السلام) ، وائتمنني عليها أبي فكانت عندي ، ولقد ائتمنت عليها ابني هذا على حداثته ، وهي عنده فعرفت ما أراد .
فقلت له : جعلت فداك زدني
قال : يا فيض إن أبي كان إذا أراد أن لا تردّ له دعوة أقعدني على يمينه فدعا وأمَّنت فلا تردّ له دعوة ، وكذلك أصنع بابني هذا ، ولقد ذكرناك أمس بالموقف فذكرناك بخير ،
فقلت له : يا سيدي زدني .
قال : يا فيض ، إن أبي كان إذا سافر وأنا معه ، فنعس وهو على راحلته ، أدنيت راحلتي من راحلته فوسَّدته ذراعي ، الميل والميلين حتى يقضي وطره من النوم ، وكذلك يصنع بي ابني هذا .
قال : قلت : جعلت فداك زدني
قال : إني لأجد بابني هذا ما كان يجد يعقوب بيوسف ،
قلت : يا سيدي زدني
قال : هو صاحبك الذي سألت عنه ، فأقرَّ له بحقه ، فقمت حتى قبَّلت رأسه ، ودعوت الله له .
فقال أبو عبد الله (عليه السلام) : أما إنه لم يؤذن له في ذلك ،
قلت : جعلت فداك أخبر به أحداً ؟
قال : نعم أهلك وولدك ورفقاءك ،
وكان معي أهلي وولدي ، ويونس بن ظبيان من رفقائي ، فلما أخبرتهم حمدوا الله على ذلك كثيراً .
فقال يونس : لا والله حتى أسمع ذلك منه ، وكانت فيه عجلة ، فخرج فاتبعته ، فلما انتهيت إلى الباب ، سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) ـ وقد سبقني -
فقال : الأمر كما قال لك فيض ،
قال : سمعت وأطعت (۱) .
وروى الكليني عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن أبي يحيى الواسطي ، عن هشام بن سالم قال :
كنا بالمدينة بعد وفاة أبي عبد الله (عليه السلام) أنا وصاحب الطاق ، والناس مجتمعون على عبد الله بن جعفر أنه صاحب الأمر بعد أبيه ، فدخلنا عليه أنا وصاحب الطاق ، والناس عنده ، وذلك أنهم رووا عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال :
إن الأمر في الكبير ما لم تكن به عاهة ،
فدخلنا عليه نسأله عما كنا نسأل عنه أباه ، فسألناه عن الزكاة في كم تجب ؟
فقال : في مائتين خمسة ،
فقلنا : ففي مائة ؟
فقال : در همان ونصف
فقلنا : والله ما تقول المرجئة هذا ،
قال : فرفع يده إلى السماء ،
فقال : والله ما أدري ما تقول المرجئة ،
قال: فخرجنا من عنده ضلّالاً ، لا ندري إلى أين نتوجه ، أنا وأبو جعفر الأحول ، فقعدنا في بعض أزقة المدينة باكين حيارى ، لا ندري إلى أين نتوجه ولا من نقصد ،
ونقول : إلى المرجئة ؟ إلى القدرية؟ إلى الزيدية ؟ إلى المعتزلة؟ إلى الخوارج ؟ فنحن كذلك إذ رأيت رجلاً شيخاً لا أعرفه ، يومئ إليّ بيده ، فخفت أن يكون عيناً من عيون أبي جعفر المنصور ، وذلك أنه كان له بالمدينة جواسيس ينظرون إلى من اتفقت شيعة جعفر (عليه السلام) ، فيضربون عنقه ، فخفت أن يكون منهم ، فقلت للأحول :
تنحَّ فإني خائف على نفسي وعليك ، وإنما يريدني لا يريدك ، فتنحَّ عني لا تهلك وتعين على نفسك ، فتنحى غير بعيد ، وتبعت الشيخ ، وذلك أني ظننت أني لا أقدر على التخلص منه ، فما زلت أتبعه ، وقد عزمت على الموت ، حتى ورد بي على باب أبي الحسن (عليه السلام) ثم خلّاني ومضى ، فإذا خادم بالباب ، فقال لي :
أُدخل رحمك الله ، فدخلت فإذا أبو الحسن موسى (عليه السلام) فقال لي ابتداءً منه :
لا إلى المرجئة ، ولا إلى القدرية ، ولا إلى الزيدية ، ولا إلى المعتزلة ، ولا إلى الخوارج ، إليّ إليّ
فقلت جعلت فداك مضى أبوك ؟
قال : نعم،
قلت : مضى موتاً ؟
قال : نعم،
قلت: فمن لنا من بعده؟
فقال : إن شاء الله أن يهديك هداك ،
قلت جعلت فداك إن عبد الله يزعم أنه من بعد أبيه،
قال : يريد عبد الله أن لا يُعبد الله ،
قال : قلت : جعلت فداك فمن لنا من بعده ؟
قال : إن شاء الله أن يهديك هداك،
قال : قلت : جعلت فداك فأنت هو ؟
قال لا ، ما أقول ذلك،
قال : فقلت في نفسي لم أصب طريق المسألة، ثم قلت له : جعلت فداك عليك إمام؟
قال : لا ،
فداخلني شيء لا يعلمه إلا الله عز وجل إعظاماً له وهيبة ، أكثر مما كان يحلّ بي من أبيه إذا دخلت عليه ، ثم قلت له : جعلت فداك
أسألك عما كنت أسأل أباك ؟
فقال : سل تخبر ولا تذع ، فإن أذعت فهو الذبح ،
فسألته فإذا هو بحر لا ينزف ، قلت : جعلت فداك شيعتك وشيعة أبيك ضلّال ، فأُلقي إليهم وأدعوهم إليك وقد أخذت عليّ الكتمان؟
قال : من آنست منه رشداً فألقِ إليه ، وخذ عليه الكتمان ، فإن أذاعوا فهو الذبح -وأشار بيده إلى حلقه -
قال : فخرجت من عنده فلقيت أبا جعفر الأحول ،
فقال لي : ما وراءك ؟
قلت : الهدى ، فحدثته بالقصة .
قال : ثم لقينا الفضيل وأبا بصير فدخلا عليه ، وسمعا كلامه وسألاه وقطعا عليه بالإمامة ، ثم لقينا الناس أفواجاً فكل من دخل عليه قطع ، إلا طائفة عمار وأصحابه ، وبقي عبد الله لا يدخل إليه إلا قليل من الناس ، فلما رأى ذلك قال : ما حال الناس ؟ فأُخبر أن هشاماً صدَّ عنك الناس ،
قال هشام : فأقعد لي بالمدينة غير واحد ليضربوني) (١) .
انظر إلى هذه الحالة وقس عليها أمر الإمام الكاظم (عليه السلام) ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر فتنة أخيه عبد الله الأفطح حين ادعى الإمامة ، وفتح مجلسه للفتيا واستلام الحقوق ، ادعاءً منه أنه الأكبر ، مع علمه بالنصوص على أخيه الإمام الكاظم (عليه السلام) ، وجهله عن أتفه المسائل ، وتشوُّه خلقته ، لأنه كان مفلطح الرأس أو الرجلين ، مثل البطة ، والإمام لا يكون مشوَّهاً ، لأنه نقص ، ولا يكون الإمام ناقصاً ، ظاهراً وباطناً ، لأنه حجة الله على الخلق أجمعين ، كما هو معروف في محله .