رغم التضييق والتشديد الذي يمارس على الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) ، إلا أنه إذا اقتضت الضرورة لإحقاق الحق ، وإزهاق الباطل ، وتوقفت المصلحة على الإظهار ، نجد الإمام الكاظم (عليه السلام) يدلي بالحجة تلو الحجة ، غير مكترث بسلطان وقهر هارون وغيره ، ولا بجنوده وسجونه ، فأكثر المؤرخين وكتب الأحاديث ، قد روت مناظرات واحتجاجات الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) مع هارون العباسي .
ومن العجيب أن محور الكلام والمناظرات والاحتجاجات التي كانت في القرن الثاني الهجري ما بين ثمانٍ وعشرين ومائة ، إلى ثلاث وثمانين ومائة ، بين الإمام موسى (عليه السلام) وبين هارون ، لا زالت يجترها البعض إلى الآن ، في القرن الخامس عشر الهجري سنة سبع وثلاثين وأربع مائة وألف هجرية ، كأنه لم تُطرق البتة من قبل ، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على التعصب الأعمى ، والحقد والحسد على أهل البيت الله (عليهم السلام) ، وإلا فالحجة بالغة ، والمناظرة واضحة ، لا تحتاج إلى الإيضاح ، وكلام الطرف الآخر نفس الكلام ، كأنه تسميع سورة الحمد والتوحيد ، التي تقرأ في الصلوات اليومية عشر مرات ، فليس الغموض في الحجة ، إنما الغموض في الرؤيا الشخصية ، المشبّعة بالتطرف والحسد والتلقين المتعمد ، لإخفاء الحقائق ، وتدوير البوصلة إلى ما يريد البعض ، وهذه الحقيقة التي نعيشها قد ذكرها الباري جل جلاله في محكم كتابه ، في عدة مواضع في القرآن الكريم
{ سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ} (١) .
ومن احتجاجات الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) ما في الاختصاص : ابن الوليد ، عن أحمد بن إدريس ، عن محمد بن أحمد ، عن محمد بن إسماعيل العلوي قال : حدثني محمد بن الزبرقان الدامغاني قال : قال أبو الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) :
(لما أمر هارون الرشيد بحملي ، دخلت عليه فسلمت فلم يرد السلام ، ورأيته مغضباً ، فرمى إليّ بطومار ،
فقال : اقرأه
فإذا فيه كلام ، قد علم الله عز وجل براءتي منه ، وفيه إن موسى بن جعفر يجبى إليه خراج الآفاق ، من غلاة الشيعة ممن يقول بإمامته ، يدينون الله بذلك ، ويزعمون أنه فرض عليهم ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، ويزعمون أنه من لم يذهب إليه بالعشر ولم يصلِّ بإمامتهم ، ولم يحجَّ بإذنهم ، ويجاهد بأمرهم ، ويحمل الغنيمة إليهم ، ويفضل الأئمة على جميع الخلق ، ويفرض طاعتهم مثل طاعة الله وطاعة رسوله ، فهو كافر حلال ماله ودمه .
وفيه كلام شناعة ، مثل المتعة بلا شهود ، واستحلال الفروج بأمره ، ولو بدرهم ، والبراءة من السلف ، ويلعنون عليهم في صلاتهم ، ويزعمون أن من لم يتبرأ منهم فقد بانت امرأته منه ، ومن أخر الوقت فلا صلاة له لقول الله تبارك وتعالى :
{أَضاعُوا الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} يزعمون أنه وادٍ في جهنم ، والكتاب طويل وأنا قائم أقرأ وهو ساكت ،
فرفع رأسه وقال : اكتفيت بما قرأت فكلم بحجتك بما قرأته .
قلت : يا أمير المؤمنين والذي بعث محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنبوة ، ما حمل إليّ أحد درهماً ولا ديناراً من طريق الخراج ، لكنا معاشر آل أبي طالب نقبل الهدية التي أحلها الله عز وجل لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، في قوله :
لو أُهدي لي كراع لقبلت ، ولو دعيت إلى ذراع لأجبت ، وقد علم أمير المؤمنين ضيق ما نحن فيه ، وكثرة عدونا ، وما منعنا السلف من الخمس الذي نطق لنا به الكتاب ، فضاق بنا الأمر ، وحرمت علينا الصدقة ، وعوضنا الله عز وجل عنها الخمس ، واضطررنا إلى قبول الهدية ، وكل ذلك مما علمه أمير المؤمنين .
فلما تمَّ كلامي سكتُّ ، ثم قلت : إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لابن عمه في حديث عن آبائه ، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكأنه اغتنمها ،
فقال : مأذون لك ، هاته !
فقلت : حدثني أبي ، عن جدي يرفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الرحم إذا مست رحماً تحركت واضطربت ، فإن رأيت أن تناولني يدك ، فأشار بيده إليّ ،
ثم قال : ادنُ ،
فدنوت فصافحني وجذبني إلى نفسه ملياً ، ثم فارقني وقد دمعت عيناه ،
فقال لي : اجلس يا موسى ، فليس عليك بأس ، صدقت وصدق جدك وصدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لقد تحرك دمي ، واضطربت عروقي ، وأعلم أنك لحمي ودمي ، وأن الذي حدثتني به صحيح ، وإني أريد أن أسألك عن مسألة فإن أجبتني ، أعلم أنك صدقتني خليت عنك ، ووصلتك ، ولم أُصدق ما قيل فيك ،
فقلت : ما كان علمه عندي أجبتك فيه .