اعلم أن بعض أهل التلبيس والتمويه ، يموهون على الناس ، بأنهم يحضرون الأرواح من الجنة و (۲) النار إذا شاؤوا ، وكل ذلك تمويه وتلبيس ، وهم أعجز من أن يخرجوا ، من حبسهم الله سبحانه في سجن جهنم أو أنعم عليهم بدخول الجنة ، ليخرجوهم منهما ، وإنما سخر لهؤلاء الجن ، فيتصورون بصورة ذلك الأشخاص ، الذين في الجنة أو (٣) النار ، ويعلمون (٤) أحوالهم ، بنظر الكواكب وقراناتها .
واستعمال العلوم التي تكشف المغيبات ، وهم مع ذلك بين صدوق وكذوب ، وهو قوله تعالى : {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ ، تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ، يُلْقُونَ السَّمْعَ وَ أَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ} (٥) وهؤلاء تصويرهم بتلك الأشكال لمحض المشابهة لا غير ، فليسوا (٦) أولئك الأشخاص ، بل إنما ظهروا على صورتهم وهيكلهم ، فيظن الناس أنهم هم ، وليسوا هم وإنهم لكاذبون .
وأما قولكم بانقلاب الحقيقة ، فليس هناك انقلاب حقيقة ، فإن هذا الاختلاف في التشكل في الجسم التعليمي لا غير ، والاختلاف في الجسم التعليمي لا يوجب اختلاف الشخص ، بالصغر والكبر والسمن والهزال والحمرة والصفرة والمرض والصحة وأمثالها اختلافاً في حقيقة (١) وإن تبدلت صوره وأمثاله ، فالحقيقة باقية غير منقلبة (٢) فلا يلزم انقلاب الحقيقة عند تغير الجسم التعليمي ، نعم باختلاف الجسم الطبيعي يوجب الاختلاف في حقيقة الجسم ، وكذلك الروح ، وذلك معلوم واضح لا شك فيه ، ولا ريب يعتريه .
وأما ما نقلت عن ذلك القائل ، من أن الجن مظاهر قدرة الله فكلام صوري ، فأن كل شيء من الأشياء ، وكل موجود من الموجودات مظاهر في قدرة الله سبحانه ، لإنه سبحانه أظهر قدرته في تكوينه ، ثم في تعيينه (٣) ثم في قدره ، ثم في قضائه ، ثم في الإذن لبروزه (٤) ثم في كتابه ، الذي هو اللوح الحافظ لأطواره ومراتبه ، ثم في تجدده وتنقله من حال إلى حال وطور إلى طور ، ووضع إلى وضع ، وسكون بعد حركة وحركة بعد سكون ، وضعف بعد قوة وقوة بعد ضعف ، وظهور بعد خفاء وخفاء بعد ظهور ، وعلم بعد جهل وجهل بعد علم ، وذكر بعد نسيان ونسيان بعد ذكر ، وكراهة بعد ميل وميل بعد كراهة ، وزيادة بعد نقصان ونقصان بعد زيادة وهكذا ، في أطوار الشيء وأكواره وأدواره وأوطاره بما يلزمه من متمماته ومكملاته ، وما له وعليه وفيه وبه وعنه ومنه ولديه ، وساير أحواله (۱) فهو بكل طور من هذه الأطوار ، مظهر قدرة لله (۲) عظيمة ، ونعمة منه جسيمة ، لا تحصى تلك النعماء ، ولا تعد تلك الآلاء ، ولا تقابل تلك القدرة بل تستقهر عندها كل نسمة (۳) ولكن مع هذا كله ، فالأشياء تختلف في هذه المظهرية على حسب مقامها في الجامعية ، فكلما كان أقرب إلى المبدأ يظهر سر الجامعية فيه أعظم ، فيكون في مظهرية القدرة أعلى وأعظم ، فأول مظاهر القدرة الحقيقة المحمدية صلى الله عليها (٤) وهي مظهر قدرة الله التي استطال بها على كل شيء ، وكل مذروء ومبروء ، من متحرك وساكن ، وحاضر وغايب ، ومجمل ومفصل ، وظاهر وباطن ، وسر وعلانية .
وبالجملة تلك الحقيقة حاملة (٥) القدرة التي نفذت وظهرت في كل شيء ، مما وجد في الإمكان إلى ما لا نهاية له ، ثم بعدها (٦) فالأنبياء هم (۷) مظاهر القدرة وحملة الهيمنة ، ومهابط ظهور القيومية في الموجودات كلها ، بعد الحقيقة المقدسة المقدمة ، ثم بعدها فالإنسان الرعية هم مظاهر القدرة ، وحملة الفيض الإلهي إلى جميع الرعية دونهم ، ثم بعدها فالجن مظاهر القدرة ، ومهابط الهيمنة إلى من دونهم من كل ذرة ، ثم بعدها فالبهايم من الحيوانات مظاهر القدرة ، وهكذا تترامى السلسلة إلى الجماد ، ثم إلى أشباحها وأشباح أشباحها وأشباح أشباح أشباحها هكذا (١) إلى ما لا نهاية له ، كل أقرب منها أتم في المظهرية ، وأعلى في حمل القيومية ، فمظهرية الجن بحسب مقامهم ومرتبتهم لا مطلقاً ، ولكن لما كان في قوس الصعود ، بعد تمام قوس النزول انجمد الإنس الرعية ، بعض أفرادها من الساكنين في الأقاليم السبعة ، لأمور وحكم ومصالح يطول بذكرها الكلام ، إلا أن حصول هذا الأمر فيهم غني عن البرهان والدليل (٢) وتجشم القال والقيل ، وإنما خصصناهم بسكنة الأقاليم السبعة ، لإخراج ما عداهم من أهل جابلقا وجابرسا والجزيرة الخضراء ، والتسعة والثلاثون عالماً ، التي من وراء جبل قاف ، وأمثالها من العوالم الألف ألف (۳) كل أولئك ما جمدوا ولا انعقدوا ، بل نار غرائزهم ظاهرة ، وذوبان طبيعتهم حاصل (٤) وأني للجن ، وما يظهر من أولئك من الأفعال العجيبة ، والأطوار الغريبة ، فظهور القدرة فيهم أعظم وأعظم وأعظم (٥) والمظهرية فيهم أتم ، وأما أهل الأقاليم السبعة ، فحيث انجمدت غرائزهم ، بقوا لا تصرف لهم ، ولا سرعة انقلاب فيهم ، إلا بمجاهدات ورياضات عظيمة شاقة ، وهي أيضاً لا تحصل إلا في أفراد نادرة ، إذا نسبتهم إلى غيرهم يكونون (١) كالمعدوم .
وأما الجن فلأجل (۲) غلبة النار فيهم ، لإن النار في الجن خمسون جزءاً ، والتراب سبعمئة جزء ، وإذا اتصل النار بالتراب لأجل موافقتها معه ، في نصف الطبيعة ، تتقوى الحرارة وتلين الطبيعة ، وتجعلها صالحة لكل صورة ، ومحلاً لظهور كل فعل خارق لعادة الإنسان ، من أهل هذه الأقاليم ما دام باقياً على الانجماد ، وما يظهر من الجن من الآثار والأفعال ، كلها أقوى مما يظهر من الإنس ، فكانت أفعال الجن خارقة لعادة أفعال الإنس ، فظهور القدرة في الجن في هذه الصورة ، أكثر من الإنس ، ومن هذه الجهة سماه بعض من ليس له ضرس قاطع في العلم ، مظاهر القدرة ، صورة ظاهرية (۳) وإلا فالإنس بحسب الحقيقة أولى بهذه المظهرية فافهم الكلام ، فقد أوقفتك على جوامع العلوم ، وأسمعتك تغريد الورقاء على الأفنان ، بفنون الألحان .