تكون السلسلة الطولية

تكون السلسلة الطولية


فإذا تحقق هذا :

فاعلم أن أول مخترع ، بالإختراع الأول ، وأول مبتدع بالابتداع الأول ، وأول ظاهر بأول ظهور ، وأول نور مشرق ، من صبح الأزل ، هو الحقيقة المحمدية ، صلى الله عليها (٦) وقد دل على ذلك إجماع المسلمين ، والعقل المستنير ، وقد ملأنا مصنفاتنا من إثبات هذا المعنى ، ولا سيما شرح الخطبة المباركة الطتنجية ، فتشعشع نورها ، وتلألأ ظهورها ، فخلق الله سبحانه عنها حقيقة الأنبياء ، فتلك الحقيقة إشراق نور (۱) الحقيقة الأولى العليا ، وحيث كانت الحقيقة المحمدية صلى الله عليها أقرب الخلق إلى المبدأ ، كان في أكمل مراتب الإمكان ، فقلت جهات الكثرة فيها ، فظهرت في مقام الكثرة ، على أربعة عشر هيكلاً ، قصبة (۲) الياقوت ، وحجاب الله في الملك والملكوت ، منزهون عن جميع النقايص ، قد طهرهم الله سبحانه عن أرواث(۳) لوازم الإمكان ، فلا يفعلون إلا الراجح :

{عِبادٌ مُكْرَمُونَ ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (٤) وهم الذين 

{وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ ، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ} (٥) 

فلا يتركون الأولى أبداً ، وإلا لفتروا ، وأما (٦) أول الإشراق عن تلك الحقيقة المقدسة ، فحيث إنه قد بعد عن المبدأ ولو بواسطة واحدة ، كانت الظلمة قد ظهرت بعض آثارها في الجملة ، ولذا كثرت الأفراد المنشعبة من ذلك الإشراق ، وحيث إنه أول ما أشرقت حقيقته من (۷) الحقيقة العليا ، كانت أكمل الموجودات وأشرفها بعد الحقيقة العليا ، فتناهت كثراتها ، وكانت مئة ألف وأربعة وعشرين ألفاً ، وقد ذكرنا الوجه في ذلك ، في أجوبة مسائل جناب العالم الكامل الفاضل الملا علي البرغاني ، فمن جهة بعدها لمرتبة واحدة ، يحصل من أفراد هذه الحقيقة ، ترك الأولى دون المعصية واقتراف الحرام ، لكمال قربها وقلة بعدها ، فالبعد بمرتبة واحدة اقتضى ترك الأولى ، واقتضى عدم ارتكاب الحرام فافهم .


ثم لكمال (۱) هذه المرتبة ، ووقوعها في أعلى الدرجة ، تشعشع نورها ولمع ظهورها (۲) فكان ذلك الإشراق كالأول ، مبدأ تحقق درجة أخرى ، ولما كان هذا الإشراق قد بعد (۳) بمرتبتين ، تمكنت فيه الظلمة وظهرت آثارها فيه ، كان الأفراد الحاصلة من تشعب ذلك الإشراق ، لا نهاية لها ولا غاية ، بل ظهرت أفرادها غير متناهية ، لبعدها وتمكن الظلمة الموجبة للكثرة فيها ، فلا نهاية لعدد أفرادها ، فتحصل منها المعصية واقتراف المحارم ، من حيث خصوصية الأفراد ، لبعدها عن مبدأ النور بواسطتين ، ولما لم يبعدوا عن المبدأ كثيراً ، ظهروا على صورة الحقيقة العليا الأولى والثانية ، فظهروا بالصورة الإنسانية ، فهذه الصورة للحقيقة الأولى العليا ، والثانية حكت مثالها ، وظهرت على صورتها ، فألقت في هوية الثانية مثالها ، فأظهرت عنها أفعالها ، كما قال أمير المؤمنين (ع)  في وصف الملأ الأعلى والحقيقة الثالثة حكت مثال الحقيقة الثانية ، كالثانية للأولى ، فظهرت على صورة الثانية ، التي هي على صورة الأولى ، لكمال القرب إلى المبدأ ، وعدم تكثر التجلي والمجالي ، كما إذا قابلت المرآة شخصاً ، ثم قابلت تلك المرآة مرآة أخرى ، فإن في الثانية مرآة وصورة ، ثم قابلت الثانية ثالثة ، ففيها مرآتان وثلاث صور ، وهذه الصور كلها ظاهرة ، لقلة الوسائط ، وإذا (۱) كثرت المرايا تتكثر الصور ، وتعوج الصورة الظاهرة ، كأنها ليست هي الأولى ، وليست هي حكايتها ، نعم إنها هي (٢) ولكن الحدود كثرت ، والمرايا تعددت ، والصورة الحقيقية الأولية خفيت ، وبهذا البيان والتقرير التام (۳) تعرف اختلاف صور الموجودات ، وانحرافها عن الصورة الإنسانية ، مع أنها كلها حكايات لصورتها ، وهي العلة لوجودها وتحققها ، وإلى ما ذكرنا (٤) يشير كلام الشاعر (٥) وهو مجنون العامري ، يخاطب ظبياً ، لما أراد ذبحه فصرعه ثم أطلقه وأنشده (٦) :


أيا شبه ليلى لا تراعي فإنني 

أنا لك من دون الأنام صديق 

فعينك عيناها وجيدك جيدها 

ولكن عظم الساق منك دقيق


فافهم ولا تكثر المقال فان العلم نقطة كثرها الجهال .


ولما كان الإشراق الثالث على حسب مقتضى (١) حكمة الله سبحانه كاملاً ، وجب أن يكون له إشراق ، ولا ريب أن هذا الإشراق في الرتبة الرابعة ، قويت فيه جهة الظلمة ، فتكثرت شعب تلك الحقيقة وتميزت (٢) فلا نهاية لأفرادها ، ولا حد تنتهي إليه أشخاصها ، وتغيرت فيها الصورة الإنسانية ، وظهرت على صور شتى ، وأطوار كثيرة ، ليست تشتبه (۳) الصورة الإنسانية ، والبهيمية وغيرها ، من الصور في الصور الذاتية ، وإن كانت تظهر بصورها ، وتتشكل بأشكالها ، بالصورة العرضية كما سنبين لك إن شاء الله تعالى


فقد حصل مما بيناه أربع مراتب :

- الأولى الحقيقة العليا الأولى (٤)

- الثانية إشراق نورها

- الثالثة إشراق الثانية

- والرابعة إشراق الثالثة


المرتبة الأولى : هي المسماة بالحقيقة المحمدية صلى الله عليها (٥)


والمرتبة الثانية : هي المسماة بحقيقة الأنبياء ، قد ظهرت في مئة ألف وأربعة وعشرين ألف شخص وفرد ، تصدق (٦) تلك الحقيقة الكلية عليها ، من باب التشكيك ، كما إن الحقيقة الأولى ظهرت في أربعة عشر هيكلاً ، هياكل التوحيد ، وأشباح التفريد والتجريد .


والمرتبة الثالثة : هي المسماة بحقيقة الرعية من الإنسان ، ولا حد لأفرادها ، ولا نهاية لأشخاصها ، والكل على الصورة الإنسانية المعتدلة .


والمرتبة الرابعة : هي المسماة بحقيقة الجن ، ولا نعني بالجن (١) إلا الحقيقة الواقعة في الرتبة (۲) الرابعة ، وهي إشراق إشراق الحقيقة المحمدية صلى الله عليها (۳) وهي متشعشعة من نور الإنسان ، مستشرقة منها ، واقفة تحت إحاطتها ، ولها الهيمنة والإحاطة عليها ، وهي باب فيضها ووجهة مبدئها (٤) .


فوجب وجودها لإحكام صنع (٥) مبدئها وإتقان حكم باريها ، وهو سبحانه على كل شيء قدير ، لا يدع الحكمة ، ولا يترك الأولى ، كيف لا وهو سبحانه عاقب الأنبياء (ع)؟ وعاتبهم وأجرى عليهم العقوبة ، بتركهم الأولى؟


وكيف يتركه سبحانه ، وهو الذي عير فاعلي (٦) ذلك بقوله (۷) عز وجل : {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} (٨) فافهم .


وهذا هو ما وعدنا لك ، من دليل الحكمة ، على وجود الجن ، وتحققها وتذوتها في الجملة ، وأما صفاتها وأحوالها فسنخبرك إن شاء الله تعالى .