إثبات حقيقة الجن

إثبات حقيقة الجن

أما بعد فيقول العبد الجاني ، والأسير الفاني ، كاظم بن قاسم الحسيني الرشتي ، أن بعض الديانين ، الذين ميزوا الغث من السمين ، وفرقوا بين السراب والماء المعين ، قد سألني عن مسألة عويصة صعبة ، قد تاهت فيها أفهام الحكماء ، وضلت في حقيقتها أحلام العلماء ، وإن كانت بحسب الظاهر جلية بينة ، ولكنها على حسب ما يريد السائل ، خفية مستجنة ، قد أتتني في حال تقسيم البال ، وتشويش الأحوال (۱) وعروض الأمراض المانعة ، من استقامة المحال (۲) واشتغالي بأجوبة مسائل ، قد أتت قبلها ، فأخرت رسم جوابها إلى أن (۳) فرغت منها ، فبادرت إلى ذكر كلمات ، تكشف النقاب وترفع الحجاب ، عن وجوه حقيقة الجواب الصواب ، من تبلبل البال ، وتعارض الأحوال ، وأتيت بما هو الميسور ، واكتفيت بالإشارة بمختصر العبارة ، لعدم إقبال القلب إلى بسط (٤) المقال وشرح الدقائق ، وتبيين (٥) الحقائق ، بواضح الاستدلال ، فإن الفطن النبيه يدرك بالإشارة ، ما لا يدركه الغبي بألف عبارة ، وجعلت كلامه بألفاظه متناً ، وجوابي كالشرح له ، حرصا لكمال التوافق ، وصونا عن احتمال عدم التطابق . 


قال سلمه الله تعالى ، بعد الحمد لله والصلاة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والسلام ، على خلفاء الله ما لفظه : 

لما كان وجود الجن مما نطق به القرآن ، وشهد عليه الوجدان والبيان ، كان التجسس والسؤال عن حقيقته مما يرغب إليه (١) الإنسان ، وبمعرفته يستكمل ويسلم عن مضرته في الأسرار والإعلان . 


أقول : أما نطق القرآن بوجود الجن ، مما لا إشكال فيه ولا ارتياب ، والآيات المحكمة في إثباته ظاهرة الدلالة ، واضحة المقالة (٢) وكذلك الأحاديث النبوية ، والآثار المعصومية ، بل وجود الجن مما انعقد عليه إجماع أهل المذاهب والأديان ، التي أتت به (۳) الأنبياء (ع) عن الله سبحانه ، وهذا لا إشكال فيه ، وأما قوله سلمه الله ، وشهد عليه الوجدان ، فما أدري ما الذي أراد به ، فإن كان المراد به ظهور وجود الجن (٤) ، بصحة البرهان وإدراك العقل بضرورة البيان ، أو (٥) المنتهي إلى الضروري ، كما هو شأن أهل هذا الشأن ، فدون تحقق هذا الوجدان ، خرط القتاد ، على أن جماعة من العلماء الأعيان ، صرحوا بأنه لا سبيل للعقل إلى إثبات الجن ، وممن صرح بذلك الفاضل المجلسي (ره) في البحار ، قال (ره) : 

في الرد على النافين لوجود الجن (إن القول بوجودهم مما انعقد عليه إجماع الآراء ، ونطق به كلام الله تعالى ، وكلام الأنبياء (ع) ، وحكى مشاهدة الجن عن كثير من العقلاء ، وأرباب المكاشفات من الأولياء ، فلا وجه لنفيها ، كما لا سبيل إلى إثباتها بالأدلة العقلية) (١) .


انظر (۲) إلى تصريحه (ره) بالنفي الكلي ، لإثباتهم بالدليل العقلي ، على أن ما ذكروا في إثبات الجن من دون النقل ، كلها تقريبات واستحسانات لا تسمن (۳) ولا تغني من جوع ، وقد قال الرازي في تفسيره الكبير ، على ما نقل عنه المجلسي (ره) في البحار ، نقلا عن النافين لوجود الجن : 

(إن إثبات هذه الأشياء ، أي الملائكة والجن ، بواسطة الدليل والنظر ، معتذر لإنا لا نعرف دليلا عقليا ، يدل على وجود الجن والشياطين) (٤) .


وإن كان مراده سلمه الله ، بالوجدان المشاهدة والعيان ، كما يشعر به أرداف الوجدان بالعيان ، فذلك قد منعوه أشد المنع ، وحملوه على بعض التخيلات ، عند هيجان بعض الأخلاط ، كما في البحار نقلا عن بعضهم : 

(أما (٥) الحس ، فلم يدل دليل على وجود الجن ، وإنا كنا لا نرى (٦) صورة ، ولا سمعنا حساً ، كيف يمكننا أن ندعي الإحساس؟ والذين يقولون إنا أبصرنا الجن ، فهم طائفتان : إما مجانين قد هاجت عليهم الأخلاط الردية ، فيتخيل لهم أشياء في الخارج ، ولا أصل لها ، كما نشاهد في المرضى وأصحاب الأخلاط الفاسدة ، يتراءى لهم أشياء لا أصل لها ولا حقيقة ، وإنما هي صور نشأت وحدثت من ذلك الخيال الفاسد ، ألا ترى الأحول ؟ أو أنهم كاذبون يتحرون الكذب ، وقول الزور ، انتهى) (۱) ما نقلته بالمعنى .


فإذا كان كذلك فدعوى ثبوت الجن بالوجدان والعيان ، دعوى لا شاهد عليها من البرهان ، بل هي أصعب ما يرد على الإنسان ، من أهل هذا الشأن ، من أصحاب دليل (۲) المجادلة ، وإن كانت بالتي هي أحسن .


نعم لما أن الله سبحانه أبى إلا أن يظهر حكمته ، ويعلن دعوته ويبين (۳) أمره ، ليكون الخلق على بصيرة وبينة ، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} وجب (٤) أن يكون لكل ما بين الله سبحانه لخلقه في كتابه وفرقانه ، بيان واضح ، وعليه برهان ودليل لايح ، لئلا تكون لهم الحجة عليه (٥) ويكون ذلك سببا ووسيلة إلى إنكارهم ، متمسكين بعدم جواز التصديق والإذعان ، بغير بيان ظاهر ، وعلم زاهر ، وفهم ثاقب ، ولما كان ثبوت الجن ، مما يتعسر بل يتعذر بدليل المجادلة ، لإقرار (٦) هؤلاء الفحول ، الذين هم أهل هذا الدليل ، بالعجز عن إقامة البرهان ، ومشاهدة الوجدان ، وجب أن يكون ذلك بدليل الحكمة ، ومشاهدة الآيات الآفاقية والأنفسية ، من قوله تعالى : 

{ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (١)

وقوله تعالى: 

{سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (۲) فوجبت الإشارة إلى نوع هذا الدليل ، لإيضاح السبيل ، لقلة سالكي هذا السبيل ، وندرة حاملي هذا الدليل .