وبالخصوص معرفة الإمام (ع) بالمعرفة التي خصه الله تعالى بها من بين الخلائق ، كما يعرفه الإمام علي الهادي (ع) في الزيارة الجامعة الكبيرة ، لأن معرفة الإمام (ع) هي معرفة الله تعالى «من أراد الله بدأ بكم ومن وحده قبل عنكم ومن قصده توجه بكم» (۱) .
روي عن الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن الحسن بن علي الوشاء قال : حدثنا محمد ابن الفضيل ، عن أبي حمزة قال : قال لي أبو جعفر (ع) :
«إنما يعبد الله من يعرف الله ، فأما من لا يعرف الله فإنما يعبده هكذا ضلالاً قلت : جعلت فداك فما معرفة الله ؟ قال : تصديق الله عز وجل وتصديق رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وموالاة علي (ع) والإئتمام به ، وبأئمة الهدى (ع) والبراءة إلى الله عز وجل من عدوهم ، هكذا يعرف الله عز وجل» (۲) .
قال الشيخ الصدوق رضوان الله عليه حدثنا الشيخ الجليل أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي (رضي الله عنه) ، قال : حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل الله ، قال : حدثنا محمد بن يعقوب ، قال : حدثنا أبو محمد القاسم بن العلاء عن عبد العزيز ابن مسلم ، قال :
كنا في أيام علي بن موسى الرضا (ع) بمرو ، فاجتمعنا في مسجد جامعها ، في يوم جمعة في بدء مقدمنا فأدار الناس أمر الإمامة ، وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها ، فدخلت على سيدي ومولاي الرضا (ع) ، فأعلمته بما خاض الناس فيه ، فتبسم (ع) ، ثم قال :
«يا عبد العزيز ، جهل القوم وخدعوا عن أديانهم ، إن الله عز وجل لم يقبض نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى أكمل له الدين ، وأنزل عليه القرآن فيه تفصيل كل شيء ، بين فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام ، وجميع ما يحتاج الناس إليه كملا» (١) ،
فقال عز وجل : {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ} ،
وأنزل في حجة الوداع ، وهي آخر عمره (صلى الله عليه وآله وسلم) :
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دينا} ، وأمر الإمامة من تمام الدين ، ولم يمض (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى بين لأمته معالم دينهم ، وأوضح لهم سبله ، وتركهم على قصد الحق ، وأقام لهم علياً علماً وإماماً ، وما ترك شيئاً تحتاج إليه الأمة إلا بينه ، فمن زعم أن الله عز وجل لم يكمل دينه فقد رد كتاب الله عز وجل ، ومن رد كتاب الله عز وجل فهو كافر .
هل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأمة ، فيجوز فيها اختيارهم ؟ إن الإمامة أجل قدراً وأعظم شأناً ، وأعلى مكاناً ، وأمنع جانباً ، وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بعقولهم ، أو ينالوها بآرائهم ، أو يقيموا إماماً باختيارهم ، إن الإمامة خص الله عز وجل بها إبراهيم الخليل (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد النبوة ، والخلة مرتبة ثالثة ، وفضيلة شرفه الله بها ، فأشاد بها ذكره ،
فقال عز وجل : {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاما}
فقال الخليل (ع) سرورا بها : {وَمِن ذُرِّيَّتِي} ؟ ؟
قال : الله تبارك وتعالى : {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} ، فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة وصارت في الصفوة ، ثم أكرمه الله بأن جعلها في ذريته أهل الصفوة والطهارة ، فقال عز وجل :
{وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ نافِلَةً وَ كُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ ، وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَ إِقامَ الصَّلاةِ وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ} .
فلم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرنا فقرنا حتى ورثها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقال جل جلاله :
{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اللَّـهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} فكانت له خاصة ، فقلدها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً (ع) بأمر الله عز وجل على رسم ما فرض الله ، فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان بقوله عز وجل :
{وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّـهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ} فهي في ولد علي (ع) خاصة إلى يوم القيامة ، إذ لا نبي بعد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) .
فمن أين يختار هؤلاء الجهال أن الإمامة هي منزلة الأنبياء وإرث الأوصياء؟
إن الإمامة خلافة الله عز وجل وخلافة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومقام أمير المؤمنين (ع) وميراث الحسن والحسين (ع) ، إن الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعز المؤمنين ، إن الإمامة أس الإسلام النامي وفرعه السامي ، بالإمام تمام الصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج ، والجهاد ، وتوفير الفيء ، والصدقات ، وإمضاء الحدود والأحكام ، ومنع الثغور والأطراف ، الإمام يحل حلال الله ويحرم حرام الله ، ويقيم حدود الله ، ويذب عن دين الله ، ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة .
الإمام كالشمس الطالعة للعالم ، وهي في الأفق بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار ، الإمام البدر المنير ، والسراج الزاهر ، والنور الساطع ، والنجم الهادي في غياهب الدجي والبلد القفار ولجج البحار ، الإمام الماء العذب على الظمأ ، والدال على الهدى ، والمنجي من الردى ، الإمام النار على اليفاع ، الحار لمن اصطلى به ، والدليل على المسالك ، من فارقه فهالك ، الإمام السحاب الماطر ، والغيث الهاطل ، والشمس المضيئة ، والأرض والبسيطة ، والعين الغزيرة ، والغدير والروضة .
الإمام الأمين الرفيق ، والوالد الرقيق ، والأخ الشفيق ، ومفزع العباد في الداهية ، الإمام أمين الله في أرضه ، وحجته على عباده ، وخليفته في بلاده ، والداعي إلى الله ، والذاب عن حرم الله ، الإمام المطهر من الذنوب ، المبرأ من العيوب ، مخصوص بالعلم ، موسوم بالحلم ، نظام الدين ، وعز المسلمين ، وغيظ المنافقين ، وبوار الكافرين ، الإمام واحد دهره ، لا يدانيه أحد ، ولا يعادله عالم ، ولا يوجد عنه بدل ، ولا له مثل ولا نظير ، مخصوص بالفضل كله من غير طلب منه له ولا اكتساب ، بل اختصاص من المفضل الوهاب .
فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام أو يمكنه اختیاره ؟ هيهات هيهات ، ضلت العقول ، وتاهت الحلوم ، وحارت الألباب ، وحسرت العيون ، وتصاغرت العظماء ، وتحيرت الحكماء ، وتقاصرت الحلماء ، وحصرت الخطباء ، وجهلت الألباء ، وكلت الشعراء ، وعجزت الأدباء ، وعييت البلغاء عن وصف شأن من شأنه ، أو فضيلة من فضائله ، فأقرت بالعجز والتقصير ، وكيف يوصف أو ينعت بكنهه ، أو يفهم شيء من أمره ، أو يوجد من يقوم مقامه ، ويغني غناءه ؟ لا ، كيف وأنى وهو بحيث النجم من أيدي المتناولين ووصف الواصفين ، فأين الاختيار من هذا ، وأين العقول عن هذا ، وأين يوجد مثل هذا ؟ أظنوا أن ذلك يوجد في غير آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟ كذبتهم والله أنفسهم ، ومنتهم الأباطيل ، وارتقوا مرتقاً صعباً دحضاً ، تزل عنه إلى الحضيض أقدامهم ، راموا إقامة الإمام بعقول حائرة بائرة ناقصة ، وآراء مضلة ، فلم يزدادوا منه إلا بعداً ، قاتلهم الله أنى يؤفكون ، لقد راموا صعباً ، وقالوا إفكاً ، وضلوا ضلالاً بعيداً ، ووقعوا في الحيرة ، إذ تركوا الإمام عن بصيرة ، وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين ، رغبوا عن اختيار الله واختيار رسوله إلى اختيارهم ، والقرآن يناديهم :
{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ،
وقال عز وجل :
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِم} ،
وقال عز وجل :
{ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ، أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ، إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ ، أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ ، سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ ، أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ} ،
وقــال عـــز وجل :
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} أم طبع الله علـى قلوبهم فهم لا يفقهون أم {قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ، إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِ عِندَ اللَّهِ الصُّمُ الْبُكُمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ، وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُم مُّعْرِضُونَ} ، {وقَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} بل هو {فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} .
فكيف لهم باختيار الإمام ، والإمام عالم لا يجهل ، راع لا ينكل ، معدن القدس والطهارة والنسك والزهادة والعلم والعبادة ، مخصوص بدعوة الرسول ، وهو نسل المطهرة البتول ، لا مغمز فيه في نسب ، ولا يدانيه ذو حسب ، في البيت من قريش ، والذروة من هاشم ، والعترة من آل الرسول ، والرضا من الله ، شرف الأشراف ، والفرع من عبد مناف ، نامي العلم ، كامل الحلم ، مضطلع بالإمامة ، عالم بالسياسة ، مفروض الطاعة ، قائم بأمر الله ، ناصح لعباد الله ، حافظ لدين الله .
إن الأنبياء والأئمة يوفقهم الله عز وجل ويؤتيهم من مخزون علمه وحلمه وما لا يؤتيه غيرهم ، فيكون علمهم فوق كل علم أهل زمانهم في قوله عز وجل :
{أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَن لَّا يَهْدِي إِلَّا أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} ،
وقوله عز وجل :
{وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} ،
وقوله عز وجل في طالوت :
{إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ وَ اللَّـهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّـهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} ،
وقال عز وجل لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) :
{وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} ،
وقال عز وجل في الأئمة من أهل بيته وعترته وذريته (صلوات الله عليهم) :
{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّـهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً ، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَ كَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً} .
وإن العبد إذا اختاره الله عز وجل لأمور عباده ، شرح صدره لذلك ، وأودع قلبه ينابيع الحكمة ، وألهمه العلم إلهاما ، فلم يعي بعده بجواب ، ولا يحير فيه عن الصواب ، وهو معصوم مؤيد موفق مسدد ، قد أمن الخطايا والزلل والعثار ، وخصه الله بذلك ليكون حجته على عباده ، وشاهده على خلقه ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .
فهل يقدرون على مثل هذا فيختاروه ، أو يكون مختارهم بهذه الصفة فيقدموه ؟ تعدوا وبيت الله الحق ، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ، وفي كتاب الله الهدى والشفاء ، فنبذوه واتبعوا أهواءهم ، فذمهم الله ومقتهم وأتعسهم ، فقال عز وجل :
{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}
وقال عز وجل :
{فَتَعْساً لَهُمْ وَ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ} ،
وقال عز وجل :
{كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّـهِ وَ عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّـهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} (۱) .
فمعرفة الإمام وبالخصوص صاحب العصر والزمان أرواحنا فداه ، بالمعرفة التي نص عليها الله عز وجل ، وبينها أهل العصمة (ع) على النمط الأوسط لا غالي يجعلهم أربابا من دون الله ، ولا مقالي يساويهم بغيرهم من الرعية .