المقدمة

 
المقدمة


أجمعت الفرقة الناجية ، الاثنا عشرية الإمامية ، أن الله عز وجل لا يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة ، بل لا يدرك بأي مدرك ومشعر من الحواس الظاهرة والباطنة ، من التصور والتخيل والوهم ، كما في رواية هشام بن الحكم عن الزنديق الذي سأل الإمام جعفر الصادق (ع) عن الله عز وجل ما هو 

«قال فما هو ؟ 

قال : شيء بخلاف الأشياء أرجع بقولي إلى إثبات معنى ، وأنه شيء بحقيقة الشيئية ، غير أنه لا جسم ولا صورة ، ولا يحس ولا يجس ولا يدرك بالحواس الخمس ، لا تدركه الأوصلة ولا تنقصه الدهور ولا تغيره الأزمان» (١) .


قال تعالى : {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} (۲) {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (۳) {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (٤) 


قال مولانا الإمام الرضا (ع) :«كنهه تفريق بينه وبين خلقه ، وغيوره تحديد لما سواه» (٥)


فلا توجد نسبة ومشابهة ، من أي جهة من الجهات ، بين الحق والخلق مطلقاً ، لا في الدنيا ولا في الآخرة فالأمر كما قال مولانا أمير المؤمنين (ع) : 

«السبيل مسدود ، والطلب مردود ، دلیله آياته ووجوده إثباته» (٦)


إذن لما كان الطريق مسدوداً ، والطلب مردوداً ، إلى معرفة ذاته سبحانه ، كيف الطريق إلى معرفته عز وجل ؟ 

لأنه لم يخلقنا إلا للمعرفة 

قال تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (۷) 

أجاب الإمام أميرالمؤمنين علي (ع) بقوله : «دليله آياته ووجوده إثباته» .


أي الطريق الوحيد الوتر لمعرفته تعالى ، هي الآثار والآيات ، المخلوقة من الآفاق والأنفس ، لذا قال سبحانه : 

{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شهید} (١)


فمعنى الآية واضح ، أنه لما امتنعت رؤيته ، وإدراك ذاته في الدنيا والآخرة ، جعل سبحانه الآيات المطروحة المخلوقة ، من السماوات والأرضين وما بينهما ، وفي الأنفس أي أنفس الخلائق ، كما قال سبحانه : {وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ} (٢) هي الطريق الوحيد لمعرفته خاصة ، وهذا مما أجمع عليه المذهب الحق من الكتاب والسنة .


إذن تعين أن الطريق الوحيد لمعرفة الحق عز وجل ، أي التوحيد -أعني توحيد الله تعالى- النظر في الآيات السماوية والأرضية ، وفي الأنفس أي أنفس الخلائق المخلوقة ، فنستدل بهذه الآيات والأنفس المخلوقة ، على توحيد الله تعالى لا غير . 


إلا أن أقرب الآيات ، وأجلاها لمعرفة الرب عز وجل ، هي أنفس الخلائق ، أعني النفس الناطقة ، المشار إليها من سيد الموحدين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) بقوله : 

«من عرف نفسه ، فقد عرف ربه» (٣) .


لأن هذه النفس المخلوقة ، هي أقرب شيء للتوحيد ، من بقية المخلوقات الأخرى ، لأن هذه النفس ، مخلوقة من نور الله عز وجل ، كما روي عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي ، عن أبيه ، عن سليمان بن جعفر الجعفري ، عن أبي الحسن الرضا (ع) ، قال : قال لي: 

«يا سلیمان ، إن الله تبارك وتعالى خلق المؤمن من نوره ، وصبغهم في رحمته ، وأخذ ميثاقهم لنا بالولاية ، فالمؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه ، أبوه النور وأمه الرحمة ، فاتقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله الذي خلق منه» (۱) .


لأن هذه النفس الناطقة خلقها الله تعالى من نوره ، وليس المراد من نوره والعياذ بالله من ذاته عز وجل ، كما يقول أصحاب وحدة الوجود ، بل الله سبحانه خلق نوراً شريفاً وأضافه إلى نفسه ، كما أضاف البيت الحرام ، الكعبة المشرفة إلى نفسه : {أن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السجود} (۲) 

وقوله : {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} (۳) 

وقوله :{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} (٤)


إلى آخرها من الآيات ، التي أضاف المخلوقين إلى نفسه ، لعظم وقداسة المضاف ، وهذا أمر كثير في أساليب القرآن الكريم .


فهذه النفس المخلوقة ، خلقها الله تعالى من هذا النور المقدس ، وهذا النور هو المعبر عنه بالوجود ، وجهة العبد من ربه والفؤاد ، وهذا النور المخلوق أشبه وأقرب شيء للتوحيد ، حيث إن هذا النور ليس كمثله شيء من المخلوقات ، ولا يدرك بشيء من المخلوقات ، وإن كان هو مخلوقاً ، فمن يعرف هذا النور المخلوق ، يعرف الله سبحانه معرفة حقيقية عن طريق خلقه ، لأن هذا النور هو أعلى مدرك بالنسبة للمخلوق ، وأقرب شيء لمعرفة التوحيد ، لذا قال مولانا أمير المؤمنين علي (ع) :

«من عرف نفسه فقد عرف ربه» (۱)


أي الذي يعرف هذه النفس المخلوقة من نور الله تعالى ، أعني النور المخلوق الشريف المقدس ، فقد عرف توحيد الله سبحانه ، بأنه ليس كمثله شيء .


فهذا النور المقدس ، الذي يدل على التوحيد ، لا يعرف إلا بالتربية الأخلاقية ، المروية عن أئمة الهدى (ع) ، فالذي لا يربي نفسه لا يمكن له معرفة هذه النفس ، لذا قال أمير المؤمنين علي (ع) «من عرف نفسه» أتى بمن الشرطية ، وجواب الشرط بالفاء «فقد عرف ربه» أي الذي يريد أن يعرف توحيد الله سبحانه عن طريق النفس الناطقة القدسية ، لا بد له من فعل الشرط ، وهو تربية نفسه عن رذائل الأخلاق ، والاتصاف بفضائلها ، كما نص على ذلك جدي المقدس الإمام المصلح الميرزا حسن الإحقاقي قدس الله نفسه في كتابه (رسالة الإنسانية) .


ومفهوم الشرط معناه أن الذي لا يربي نفسه ، لا يمكن له معرفة هذه النفس ، نعم يعرف الله تعالى عن طريق الخلق ، ولكن معرفته تكون غير كاملة .


فهذا النور موجود في جميع الخلائق ، إلا أن المستفيد منه المؤمنون ، لأنهم هم الذين يروضون أنفسهم بالتقوى ، لذا أشار الإمام الصادق (ع) في الرواية السابقة بقوله : 

«يا سليمان ، إن الله تبارك وتعالى خلق المؤمن من نوره ، وصبغهم في رحمته ، وأخذ ميثاقهم لنا بالولاية ، فالمؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه ، أبوه النور وأمه الرحمة ، فاتقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله الذي خلق منه» (۱) .


فالمستفيد الأكثر حضاً من هذا النور ، هم المؤمنون خاصة ، فالذي يصل إلى هذا النور يكون عنده نوع من المكاشفات ، والتوسم بالمغيبات ، كما أشار إليه مولانا الإمام الصادق جعفر (ع) بقوله :

«فاتقوا فراسة المؤمن» فهذه الفراسة والمكاشفات بسبب هذا النور المخلوق .